Culture Magazine Thursday  31/12/2009 G Issue 292
فضاءات
الخميس 14 ,محرم 1431   العدد  292
مجتمع الحرية والمساواة وتناسخ الأرواح
بدهية التعايش بين الفلسفة والخرافة
محمد الهويمل

 

الصرامة في تلقي الدرس الفلسفي يصرف ذهنك عفواً عن إسقاطات الممكن الفلسفي على الواقع العيني بل وعلى النقيض من الواقع وهو الخرافي؛ فهذا اللون من غفلة النظري عن التطبيقي لا يلقى بالاً لإمكانية الخلط بين متناقضات التطبيقي؛ إذ النظرية بمعزل لا يجعلها قادرة على إدارة هذه التناقضات أو الاهتمام بها الذي من شأنه أن يرمي بظلال ثقيلة على المفهوم المركزي للنظرية وإمكانية حضور هذه التناقضات فيه لا في التطبيق، والدليل هو العجز عن التعامل مع الواقع وتسفيه خرافاته وعجائبياته إلا على سبيل المقت والتحقير والانتقاض التقليدي لما هو غير عقلي غير أن الواقع المقروء والمُعاش يؤكد إمكانيته بل وبدهية التآخي بين ما هو فلسفي وما هو خرافي ولا سيّما إذا تذكرنا أن البداية الأولى للفلسفة انطلقت من المعبد الوثني الحاضن الأول للخرافة.

واستمر هذا التلازم على نحو أقل حدّة وربما انفصل على استحياء بل وحالة من التحدي مع ظهور الفلسفة الثورية التي حاولت أن تحتل زاويةً ثالثة في مثلث الأيديولوجيا الإنسانية (الدين، الخرافة، الفلسفة) بعد صراع الدين والخرافة والاتهامات المتبادلة بينهما بمصادمته العقل؛ فالوثنيون وصفوا الدين بأساطير الأولين، والمؤمنون وصفوا الوثنية بأساطير الأولين؛ لتأتي الفلسفة لتفض أو توجه هذه الصراعات إلى عقلانيتها دون أن تحسم الموقف إلاّ أن تتخذ موقعاً وسطاً ومحرجاً؛ فرفضها للدين يدفعها صوب الخرافة، ورفضها للخرافة يدفعها صوب الدين، وعندها تكون محلقاً بأحدهما وتفقد تقدميتها وطليعيتها في توجيه الإنسان وخياراته؛ فاتخذت موقف الرفض المجاني تجاههما دون أن تؤسس لها مستنداً علمياً واضحاً في مشروع الرفض سوى نقض ما لا يتفق مع العقل أو بالتعبير الشعبي (ما يدخل العقل) متجاوزة تاريخاً من الإيمانيات بالدين والخرافة، وكلاهما تعاملا مع ما هو عقلي وما هو ممكن. وجدل المؤمنين والدهريين يكشف عن وجهة نظر عقلية ومستوى عال من استثمار قدرات العقل والتقليل من عقل الآخر، والعادة هنا تحكم أدوات الجدل بينهما وتتدخل الفلسفة بأدوات جديدة تفاخر بجدّتها وتقدميتها حتى إذا لم يطرأ عليها تنشيط أدرجت في خانة العادة والتقليد وباتت مفسرة لما يريده الإنسان وما يؤمن به لا ما ينبغي عليه أن يؤمن به، وهذا جليّ في ما يلح عليه الفلاسفة بمناهضة ما لا يقبله العقل وانتهى مشروعها بشأن الدرس الغيبي الميتافيزيقي عند هذا الحدّ واكتملت أو توقفت شخصيتها هنا ولم تمارس تجديداً إلا على صعيد الإسقاطات دون إعادة النظر لمسلماتها الأولى وتطويرها، وهذا لا يتم إلا بنقد العقل وأهليته، وتنادي بهذا أقلية منهم لم يُأبه بهم؛ ما أدى إلى ضعف الفلسفة ودخولها في العلوم الأثرية وربما الأساطير لاحقاً وانفضاض مريديها عنها بوصفها عجوزاً خرفة - كما يقول وِل ديورانت -؛ فالفلسفة لا تؤدي دوراً فكرياً إلا في مجال الدعوة لرفض اللاهوتيات والخرافيات وتبني موقف الإلحاد الذي تبنته الخرافة تجاه الدين سالفاً والتقاء الفلسفي والخرافي في الموقف الدهري (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)؛ ليتفاجأ المؤمنون الذين يكنّون للفلسفة هيبة، وربما حاوروها، لرفع مستوى الحجة، فإذا بهم يستعيدون حججهم ضد الوثنية لمقارعة الفلاسفة التقدمين التنويريين وكأنها خدعة أو مؤامرة اختمرت في ضمير الزمن دهوراً لتكشف الفلسفة عن قناع التواطؤ مع الطائفين على هُبل والعزى. هذه الصدمة لدى المؤمنين تجاه الفلسفة الميتافيزيقية جعلتهم يعيدون مراجعة تعاملهم مع المهيب سابقاً، وتتجدد هذه الصدمة في في فصل جديد من فصول بدهية التعايش بين الفلسفة والخرافة على صعيد الذوق المحض أو المزاج المؤدلج، ولا سيما ما يتعلق بسن القوانين وربط هذا بروح الطبيعة وجدليات العدل والظلم والرحمة والقنوات العشوائية في تلقي أو اختراع هذه المبادئ وترجمتها إلى مدونات تحكم المجتمع الحديث وعرض هذه المدونات والتقنيات التي تتبدل سريعاً تبعاً لتطور القيم الأخلاقية الآخذة في الاطراد؛ فالإنسان قبل كتابة هذا المقال ليس الإنسان بعد كتابته؟ وهذا منسجم مع الخرافة قديماً وحديثاً؛ فالأنظمة والقوانين منذ عصر الرومان الوثني يتولى الحكماء سنها لتخدم الإنسان في يومياته وتدافع عن حقوقه دون تلق مسبق من الآلهة رغم هيمنتها على الحس الجمعي؛ فالديمقراطية والخرافة تتكاملان لخدمة الحس والنظام المدني من جهة، ويتكامل الفلسفي والخرافي في التبرير المتبادل من جهة أخرى، وكما قيل (المنطق يمنطق ما ليس منطقياً)؛ وعليه فالفلسفة تفلسف ما لا يعقل بل تكتمل جاذبيتها اللاهوتية بتبرير الأسطورة تبريراً علمياً خالصاً؛ فالأغلبية من المسلمين مثلاً يوجهون انتقادات جارحة للأقلية الشيعية لتبنيها اعتقادات تصنف في قائمة الخرافات، في حين أن المرجعيات الشيعية التي تنظر هذه الاعتقادات احترفت الفلسفة القديمة والحديثة والمنطق دراسةً وتدريساً أضعاف ما يدرسهُ أهل السنة، فما علاقة الدراسة المكثفة للفلسفة وتبرير هذه القناعات المتهمة بالأسطورية والخرافية؟ وماذا قدمت الفلسفة لمقاومتها؟... لا شيء ! لأن التكامل بين الفلسفي وما يصفهُ الآخرون على أنه خرافة تكامل بدهي، وينهض مثال آخر وهو العقيدة الدرزية واحتضانها للاعتقاد بتناسخ الأرواح الذي ينكره الذوق الإنساني الجديد ويصفه بالبدائية في حين أن الفلسفة آمنت به يوماً ما، فضلاً عن أن العقيدة الدرزية عقيدة فلسفية تتلقى أفكارها من المنبع اليوناتي تلقائياً، ويتعايش مع هذه الخرافة موقف ليبرالي حاد يتمظهر في القانون المدني الدرزي الذي سبق الأنظمة العلمانية في مجال المساواة والحرية وحقوق المرأة بل حقق امتيازات للمرأة لم تحققها القوانين العلمانية الحديثة على الرغم من أن مصدر هذا الإلهام في الحرية والمساواة هو ذات المصدر الذي يهيمن عليه حس وقناعات تناسخ الأرواح المصنفة وثنياً عند المخالف وهو الإنسان الليبرالي الجديد، فما هذا الانسجام العفوي بين الفلسفي والخرافي؟ ويمضي هذا الإخاء المدهش إلى خطاب التصوف الفلسفي بكل خرافاته وتقدمياته والمعتزلة الذين يتكئون على الفلسفة ويكفرون مرتكب الكبيرة في الآن ذاته .. إنها غفلة الفلسفة عن الخرافة وغفلة الخرافة عن الفلسفة، وتلكما الغفلتان ظلال رحبة تستجلي هذا التعايش الذي غفلنا نحن عنه.

الرياض hm32@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة