من المسلم به أن الحداثة العربية نجمت عن اتصال فكري عربي بمصادر الفكر الغربي منذ قرن ونصف القرن، ابتدأ بالتقليد والاقتباس وتركز بالاستلهام والتأويل والحوار والنقد. أي كل أنواع الاتصال التي يمكن أن ينسجها فكر مع فكر آخر يؤثر فيه. ولكنها في الوقت ذاته تحدرت من مشكلات خاصة بالمجتمعات العربية والثقافة العربية. مشكلات ما كان للحداثيين في أوروبا قبل قرن ونصف أن يطرحوها لأنها لا تنتمي إلى حقلهم التاريخي والثقافي.
اجتاز الفكر العربي المعاصر مرحلتين أساسيتين الأولى وتمتد حتى منتصف القرن العشرين كان فيها هذا الفكر إصلاحياً نهضوياً، والثانية تبدأ من الستينات من القرن الماضي، وكان هذا الفكر فيها حداثياً بطرحه مسائل التمدن والحرية والدستور والعقل، وبتداوله إشكاليات الأصالة والمعاصرة القديم والحديث، ال(أنا) والآخر. ولاستعادة المشكلات التي طرحها النهضويون ولكن على نحو مختلف يفكك بعض يقينياتها القديمة ويحرر بعض أطروحاتها من دوغمائية العمى الفكري.
- في كتاب (العرب والحداثة) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، فبراير /2007م، يؤرخ عبدالإله بلقزيز للمسائل التي طرحها رجال النهضة، ويتناول بالنقد والتحليل أبرز أسئلة الحداثة الفكرية: الدولة الوطنية، العلمانية، الحداثة، النزعة التاريخية، ويتوقف دارساً ممثليها الفكريين منذ الستينات حتى اليوم، في أطروحاتهم ونقاشاتهم، وهم أنور عبد الملك، هشام جعيط، عبدالله العروي، ناصيف نصار، ياسين الحافظ، وعلي أومليل.
يعتبر عبدالإله بلقزيز أن مفكري الحداثة الجدد تخصصوا في ميادين اختصاصهم أكثر من السابقين الذين تنوعت موضوعات اهتمامهم، واتسعت دائرة المسائل التي كتبوا فيها، وتداخل فيها الأدب بالنقد الأدبي، بالدراسات الاجتماعية والفكرية، وهو تخصص دفعهم إلى تعمق أكثر في ميادين المعرفة التي اشتغلوا فيها، و إلى اتصال أوسع بمصادر الفكر. لذلك تميزوا بنزعتهم النقدية تجاه التراث والفكر الغربي فهم كانوا أقل اطمئناناً من سابقيهم إلى معطيات المعرفة التراثية، وأقل انجذاباً بالمعرفة الغربية، أو استعداداً للتبشير بها.
إن المنزع النقدي عند الحداثيين الجدد حررهم من ثقل التجاذب الحاد بين تيار الأصالة والمعاصرة، وحملهم على بناء رؤية حداثية تركيبية تنشر التقدم وتبني له صرحاً فكرياً بعيداً عن النموذج الغربي، ومرجعية التراث العربي.
إن من يقرأ مقالات الحداثيين الجدد على ما يذكر بلقزيز منذ الخمسينات من القرن الماضي (زكي نجيب، أنور عبد الملك) والستينات (عبدالله العروي، ياسين الحافظ، هشام جعيط، وناصيف ناصر) يجد أن القيم الفكرية التي تأثروا بها ودافعوا عنها، ومن داخلها فكروا وألّفوا، هي القيم التي كانت في أساس تقدم أوروبا والغرب والتي من رحمها خرجت أنظمة الحداثة السياسية والاقتصادية، والثورة الصناعية والتقنية والتقدم الاجتماعي، وسوى ذلك من الظواهر التي ترمز إلى المدنية الحداثية، إنها قيم العقل والحرية والعلم والمواطنة والعدالة والتسامح، وهي ذاتها القيم التي أتت تحملها وتُعَبِرُ عنها نزعات في التفكير، وتيارات ومدارس كان منها العقلانية، والتجريبية، والتاريخية، والعلمانية، والوضعية، والماركسية، والليبرالية وسواها.
لم يتأخر الحداثيون الجدد كثيراً على استعادة الإشكالية التي طرحها رجال النهضة، وهي إشكالية التقدم (ماذا نأخذ من الآخر، وما الذي نحافظ عليه من الموروث؟ هل الطريق إلى النهضة يمر عبر الثورة على الاستبداد، أم عبر الإصلاح الاجتماعي، أم الإصلاح الديني؟ ما دور الدولة في عملية الإصلاح، وما دور المثقفين في التنوير؟).
إذا دققنا أكثر في صيغ هذه الأسئلة ومحتواها، يتبين لنا بوضوح أنها ليست أكثر من تنويعات لسؤال ضمني هو كيف نتقدم؟.. انقسمت حوله النخبة الثقافية العربية إلى قسمين: قسم فكّر من داخل إشكالية التقدم بمفردات إصلاحية إسلامية تخرج المسلمين من تخلفهم وتضخ الحياة في تاريخهم وتؤهلهم ليكونوا أنداداً للغربيين، وذلك باتباع الطريق التي قطعتها أوروبا للخروج من ظلماتها وتحقيق مدنيتها الحديثة، سبيل العلم والحرية والدستور وفك أغلال المرأة ونشر التعليم والإصلاح الديني. في المقابل انصرف قسم آخر من هذه النخبة للدعوة إلى التمدن والنهضة اللتين لم يجدوا سبيل إليها إلا بالقطيعة مع الماضي واستلهام المثال الأوروبي والاقتداء به.
منذ أن تعرض الوعي العربي لصدمة الغرب على ما ينقل بلقزيز عن المفكر التونسي هشام جعيط، يتبلور خطان ثقافيان كانا يحركان العرب المسلمين: (خط إصلاحي ذاتي بأوسع معنى للكلمة.. وخط رفض مباشر للآخر...)، بدأ الثاني سلفياً، لكنه انتهى إلى أن يصبح إحيائياً منذ حقبة ما بين الحربين. أما الأول فاستعار فكرة الإصلاح من داخل التجربة الحضارية الإسلامية، وعليه فإن النهضة العربية كما يوضح جعيط كانت سطحية وطالت اللغة حصراً دون الأدب. والأهم من ذلك كله هو قفزها من ماضٍ قريب إلى آخر أبعد في الزمن لاسترجاع الماضي في صفائه، ثم لا صلة لها بالإصلاح فهي أقرب إلى الفكرة الأنوارية منها إلى الإصلاح، وبخاصة أن الذين أفرغوا جهداً لتحقيقها ليسوا إصلاحيين مسلمين، بل من المسيحيين العرب في بلاد الشام.
لقد مثل العصر الليبرالي العربي عصر لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين على ما يوضح بسام جعيط فترة أنوار عربية بالنظر إلى تأثير مفكري هذه الفترة في الأنتلجنسيا العربية اللاحقة، وخصوصاً دورها في علمنتها وينقل بلقزيز عن هشام جعيط قوله: (لكن المثقفين الليبراليين ما كانوا يشكلون وسطاً واسعاً، متماسكاً ومنسجماً على نحو كاف، بل كانوا سطحيين، ولم يبدوا إرادة دؤوبة على العمل لتأسيس العقل في قراءة الماضي بمجمله).
إن التشكيك بإنجازات النهضة على ما يذكر بلقزيز عن جعيط، يلاقيه التردد عند المفكر التونسي من الحداثة. ويعترف جعيط بأن ثمن الحداثة كان مؤلماً في كثير من الأحيان في المجتمعات نفسها التي ابتدعتها، ويعترف أيضاً بأن هذه الحداثة لم تقتلع سوى قوى الشر في الإنسان والمجتمعات، لكن ذلك لا يسوغ الاعتقاد بأن ولوج مغامرة الحداثة سيقود المجتمع والثقافة العربيين إلى دفع ذلك الثمن من شخصيتها، أي إلى التضحية بهوية تاريخية مقابل حداثة ذات كلفة، أو غير مأمونة العواقب، إذ من يقول إن هذه الهوية نفسها تقدم حلاً لمعضلة الانسداد التاريخي العربي.
لا يكتفي هشام جعيط بالتشديد كما يذكر الباحث المغربي بلقزيز على أن الحداثة لا تهدد الهوية فحسب -خلافاً لما يذهب إليه مناهضوها- بل تمثل وعاء لاستقبال الهوية نفسها وتنميتها. وهكذا فالإسلام ينتشر أكثر في العالم بسبب الحداثة وليس للاحتجاج ضدها. ومن يراقب اليوم استعمالات الإعلام الفضائي ومنظومة المعلومات، وشبكة الإنترنت من طرف المسلمين، يدرك إلى أي حد بات في وسع الإسلام واللغة العربية أن ينتشر أكثر، وإلى أي مدى يستفيدان من أرقى إبداعات الحداثة: الثورة التكنولوجية والاتصالية والمعلوماتية، ما يقطع ببطلان الفكرة الذاهبة إلى بيان وجه التعارض بين الحداثة والهوية.
إن كتاب د. عبدالإله بلقزيز (العرب والحداثة) الذي يعنى بمطالعة فكرة الحداثة في وعي النخب العربية يكشف عن جهد أكاديمي مميز في تناول مسائل الحداثة، وينم عن نفس نقدي حاد يضع اليقينيات السائدة في موضع التساؤل!؟.
الرياض