سعد البواردي

176 صفحة من القطع المتوسط

عواد القمة في شعره اصطفى عنواناً لديوانه قمماً أولمبية يحط عليها مشاعره الواسعة من خلال رؤاه الشعرية، وأخيلته الشاعرية.. اختار لمحطته الأولى أن تكون رمادية تميل إلى السواد.. إن لم تكن السواد بعينه.. إنه يخاطب الليل هازئا وساخراً في رباعيته الطويلة اجتزئ منها البعض:

يا ليل كم أسخر مما تقول

وأنت من يجهل سر القؤول

سخرية العلم بجهل الجهول

ضرب من السخر بعيد بعيد

يا ليل ما صمتك صمت صمت الدهاء

كذاك ما كان بصمت الخواء

لكنه فيما يرى كل راء

سذاجة الوهم وهمس الخلي

في شطره الأول من بيته الثالث وردت كلمة صمت مكررة أخلّت بالوزن.. أما نظرته إلى الليل.. ونظرتنا نحن إليه مجرد تجسيد لتكوين فاعل يلقي عليه الشعراء أثقالهم دون ذنب.. الليل مجرد ستار من الظلمة يتكون لحظة غروب الشمس في مدار جانب من كرتنا الأرضية حولها اتخذ الشعر منه رمزاً للوحشة، والوحدة.. والآهات.. الليل مسلوب الإرادة.. ومع هذا تطاله الأقلام كصانع أسقام، أو أحلام هو بريء منها لأننا نحن كبشر المسؤولين عنها:

يهزمك النهار ويا إن تغار

ويمتطيك البدر بعد السرار

أأنت تستمرئ دور الحمار؟!

في مسرح الكون وتمثيله؟

غيرة.. وهزيمة.. وتشبيه بحمار كلها نالت من ليلنا.. ونسينا أيضاً أن الليل يهزم النهار بقدر ما يُهزم.. بل إنه في مناطق من هذا العالم يسيطر على مساحة ثلاثة أرباع السنة مخيماً بسواده لا يسمح للنهار بالظهور.. التهمة لليل جائرة:

يا ليل ما وحيك للناعسين؟

إلا كوحي البؤس للتاعسين

أرهقك التقليد طول السنين

وأنت أرهقتهم بالخمول

الليل سكينة نستعيد بها أنفاسنا.. وراحة تملأ رئة الواحد منا بالراحة.. ثم إنه يعطينا الأحلام المتصارعة.. يقظة الأحلام، أو أحلام اليقظة بقدر ما يعطيه النهار لنا.. بل أكاد أجزم أن أحلام الليل انعكاس صادق لحركة النهار ومشاكله.. اكتفي من هذا الجدل الشعري إن لم أقل الخصام الشعري لسواد الليل.. فالنهار أيضا بمصائبه ومصاعبه يستحق العتب.. لأننا أدوات حركته الذين يمتطونه دون أن يتعرّفوا على أنفسهم. أتجاوز البعض من قصائده.. وأتوقف بكم مع مقطوعته الفلسفية (رفات)

هذي بقايا شبه عقل امرئ

عاش عقيماً من سوى الترهات

كان على صاحبه هينا

وكان قد أزرى به بالشتات

ضيَّعه.. أهمله.. زجَّهُ

في شعوذات سهلة في سبات

إنه يتأمل بروح شاعرية عالية تلك البقايا من جسد تمدد.. تصورها وهي حيَّة تركض على الأرض بخطواتها.. بخطئها، وبخطيئتها.. كم ذلَّت وأذلت.. كم هانت على نفسها وأهانت سواها.. كم.. وكم.. وكم..

إن رفات الشيء أشلاؤه

دبّ إليها تلف وانحلال

من بعد أن دبّ إلى أصلها

عجز التلقي في حياة النضال

لو أن للعقل رفاتاً لما..

عاشت حضارات بناها الرجال

فلن يموت العقل أو ينتهي

إلى رفات.. إن هذا محال

مع شاعرنا الكبير الراحل كل الحق في قوله (الجسد هو الذي يفنى).. العقل يبقى بمعطياته وإنجازاته مدى الحياة حتى ولو فارق جسده لأنه ترك بصمته التي تموت في عالم متجدّد متعدّد بثقافاته ومهاراته.

(اشبعته لهواً.. وأشبعه..) اجتزئ منها ما نستدل به على مضامينها:

لا تحسبيني عابداً.. صنما

فلكم عبثت به، أحطمه

وأريتها الرسم الجميل لها

يحتل محفظتي، وأصحبه

لكنه مرآة غانية..

تزهو بمنظرها وتعشقه

وكأنه ايقون عابدة

مفتونة.. ليست تفارقه

ماذا من أمرها مع شاعرنا العواد؟

وانظريني.. فإنني وأنا الذاهب

بالعمر في مطاوي السنين

لم أشوه غضاضة النفس عندي

بانطواء ولا ببأس حزين

قد حملت السنين تترى، وما آ

ليت حملا.. ولا نقمت السنينا

وخريفي بهن غير قرين الم

شتكى وهو ما خطا العشرينا

والخريف الخريف مصطلح أجو

ف يهذي.. وأين مني الخريف؟

نفض الشعر عن غلالته الضعف

وشتان قادر وضعيف..

يريد أن يقول لها إن العمر مشاعر.. والشعر صوت عمر لا يطال الهرم ولا التجعد متى كان قوياً يمتلك ناصية التعبير.. فكرة شاعر.. شاعرنا الراحل يذكّرنا بالموت قدراً ومصيراً ومنقلباً كي نعد له عدته زاداً من الخير.. ثمراً من الحب والفضيلة.

الموت ما كان وعظه عبثا

منذ احتوى حارثا.. وما حرثا

والدهر ما شاء مهد ذي نفس

حتى نوى أن ينميه الجدثا

ولا مضى الليث فيه مفترسا

بدون إغرائه به لبثا!

هل خرّ هابيل في حبائله؟

إلا وقابيل حولهن مجثا

مفردة مجثا في الشطر الأخير غير مفهومة.. أخاله خطأ مطبعي لكلمة جثا..

زرع، وحصد، نعيش بينهما

يكتنفان النفوس والجثثا

هكذا هي حياتنا زرع السابقون وحصد اللاحقون.. ونحن بدورنا نزرع ليحصد من بعدنا أولادنا فأحفادنا سنة التواصل لتواجد كل الكائنات الحيّة بمن فيها نحن البشر.. لا مجزع من موت أراده الله.. الجزع من موت يريده الإنسان لآخر ظلماً.. وعدواناً.. وغدراً.. إنه الموت القاتل.

إنا لنفرح بالأيام تقطعها

وكل يوم مضى يدني من الأجل

إنها المقادير التي لا مناص عنها ولا مفر منها.. نهاية عمر حتمي أزلي لا بد أن نستقبله بإيمان ويقين لا يفقدنا العيش.. ولا يربكنا السعي والزاد الخير.. لقد خلقنا الله من طين.. وإلى الطين نعود كما جئنا لأول مرة.. وأن نأخذ الحكمة من قول شاعره الحكيم.

دع المقادير تجري في أعنّتها

ولا تبيتن إلا خالي البال

هذا لمن يقدر.. ويمتلك إرادة إيمان لا يهتز.. ويقين بأن الحياة مزرعة والموت منجل يحصد ذلك الزرع، أخيراً يقول شاعرنا في عظة الموت مبتهلاً إلى خالقه:

يا وارث الأرض والسماء وما

فيهن من وارث وما ورثا

إيماننا من لدنك نقبس

إن ألحد المستريب أو حنثا

لا شك، لا زيغ، لا التياث به

لا فتنة، لا جدال، لا رفثا

فاجنبه يارب أن يضل إذا

ضل امرؤ عن هداك أو نكثا

كم أبرم الساحرون من عقد

فحلّها الموت حينما نفثا

وليس من كارث مدى زمن

الا وفي الموت فوق ما كرثا

بهذه الروح الإيمانية ودَّعنا شاعرنا بعظته البليغة أيما وداع..

ومن عظة الموت إلى فتنة الفكر.. والفتنة أشد من القتل كما الانتظار أيضاً.

أيها الجنس ما أعز المعالي

مطلباً يجذب النفوس العوالي

بارك الله في أوانك الغر

موجبون الهدى طوال الليالي

طالبات مذكرات، وآناً

كاتبات يبدعن أحلى الأمالي

نشطات.. عواصلا من حلي

بينما هن بالكفاح حوالي

إنه صوت استنهاض لبناتنا وهن يستقبلن حياتهن بالجد.. والبحث عن المعرفة.. والاستزداة من العلم غير آبهات بمظاهر الزخرفة الحياتية المادية، (الحلي) لا وجود له في معاصمهن.. أما حيث الكفاح في ساحة المعرفة فإن الحلي موجود لأنه رمز مثابرة وجد.. يمضي شاعرنا العواد في مقطوعته:

هكذا جنسكنَّ يا فتيات الفكر

يا زينة الحجى الصوال

هكذا جنسكن في الزمن الحاضر

واعي السرى فسيح المجال

لا يبالي ولن يبالي يوما

غضب السائرين في الأوحال

إن عاشق يقظان يلتهم

الحسن الرفيع وليس يبعده

فصلي أو انصرفي ولا حرج

هذا هواي، وما أمارسه

فتنفست فرحانة، ثقة

فيما أصوره، واكتبه

لعلها عاشقة شعر.. يكفيها من الهوى قراءة قصيدة.. بل لعلها القصيدة نفسها التي حمّلها كل خواطره الثقيلة وناءت بها إلا أنها لا تستطيع فكاكاً لأنها تقرأ نفسها في دواخل مشاعره. غنَّى لمكة.. وغنَّى لها الكثيرون.. أيهم كان الأكثر إثارة.. والأكبر جدارة.. أحسب أن شاعرنا الراحل الأقرب منها سيكون في المقدمة:

مكة الخير.. والهوى، والحفيف

واللقاءات كالسنا، كالرفيف

يا ملاذ الايمان.. يا موطن النور

تهادى من الإله اللطيف

بلدي يا رؤى الطفولة.. يا

مهد القداسات يا لواء الرحوف

كم احلت الخريف فينا ربيعا

حيث ينهي الربيع مسَّ الخريف

ورقينا على جوانبك الفيح

ذرى عزة الأبي الشريف

يستعرض الكثير من مشاهد وشواهد ذكرياته في ربوع مكة الطاهرة.. يتذكّر صبوته.. وصباه.. مراتعه ومرابعه في تلالها.. وفي واديها الزكي:

مكة الأمس. والحديث لذيذ

عنك.. كالوحي في حياتك رفا

رفع الوحي فيك كبرى المنارات

بها استفتح النماء.. وقفى

فاستوت بين لابتيك حصونه

للحضارات، والخلود المصفى

الكثير الكثير جاد به لأقدس بقعة في الأرض، كان عاشقاً لها.. وحفياً بها.. بعض أبيات حب ووفاء لبلد المسجد الحرام.. إنه غيض من فيض اغترفته من بحر حبه للمدينة المقدسة التي غرق هياماً بها.

بعيداً عن أرض المقدسات يأخذنا معه إلى الفردوس المفقود، حيث عذراء مدريد الفاتنة:

أيما سهم (كيوبيد) رماه؟

سارياً في مبتداه منتهاه

ذلك الطفل الذي قد زعموا

صائد الأنفس عن امر الشفاه

كم أصاب النجح في أهدافه

ولكم أخفق وارتدت يداه

أية أهداف عناها شاعرنا؟

اقبلت نحوي - مساء - كاعب

بسمت تسألني: (ماذا لديك؟)

أترى هل هبطت من أفقها

ربة الشعر تلبي أصغريك؟

قلت: بل ها هي ذي هابطة

من أولمب الحسن تملى شفتيك

فذريني أتلقى وحيها

شاعري السحر يرتد إليك

ما على روحيَ أن أحببتها

فيك أو أحببت فيها ناظريك

هيَ أنتِ الآن أو أنت هيَ

الدهر في مستقبلي واهاً عليك

بدأ العمر هنا يا ليته

ينتهي.. إذ ينتهي بين يديك

بهذا القدر من العشق الصارخ لفاتنة مدريد اكتفي خشية أن تمتد إلي ناره فتكويني.. وجسدي الكهل لا يحتمل الكي.

لشاعرنا رؤية عن الأحلام الليلية لا تفسرها..

إذا أصبحت منزعجاً لرؤيا رحلت ترفضها

فعد للنوم ثانية تجد أشياء تنقضها

وما هذي بفلسفة أنمقها وأعرضها

ولكن بعض تجربتي عن الأحلام انقضها

اسأل مجرباً.. ولا تسأل طبيباً.. ما دام جرَّب ونجح.. ليجرّب من يجرّب.. قد ينجح وقد تفشل التجربة.. أحلامنا المثقلة بهمومها مستعصية.. وكما غنى للربيع الشاعري غنى للخريف.. قائلاً:

يا فتاتي وأنت في العمر الزاهي

حياة هي الربيع المواتي

ما تريدين بالنزوي انفعالا

ت يشوهن وجه هذى الحياة

أنت أنثى.. أثارها الله شِعراً

آدمياً، موجهاً، مستحثا

فخذي في الدنا مكانك فالشعر

أخذناه عنك كسبا، وإرثا

الجمال يصنع الشعر الجميل متى كان مؤطراً معطراً.. ومؤثراً.. أنه ينتزع الصور ويقيم بها هرماً متى جاءته قدرته قادره..

شاعرنا الراحل حرص على أن يسدي عظته لتلك الفتاة كي لا تهاب ملامح الشيخوخة الواضحة على ملامح وجهه:

هكذا فعله.. وإن شرقت أرواح

قوم بعذب هذا الزلال

كأنما شاعرنا يوازن بين قديم كانت الفتاة رهينة جهلها ودارها.. لا دور لها في بناء المجتمع.. ولا صوت لها فيه.. وبين عصر جديد أتاح لها أن ترى النور.. وأن تغترف من منهل العلم.. وأن تقف على قدميها وأن تتحرّك إلى الأمام بخطوات واثقة تشارك فيه الرجل دور المعلمة والطبيبة.. والحاضنة الاجتماعية.. والمفكرة.. والشاعرة.. وربة أعمال.. ناهيك عن دورها كأم تدرك مسؤوليات التربية لأطفالها.. والرعاية لبيتها من خلال ثقافة تستبين بها ما لها وما عليها.. هكذا أراد أن يقول لنا شاعرنا الراحل العواد بوضوح لا تنقصه الصراحة، وللوضوح أكثر يضيف لنا مشهداً آخر:

وغبي يعيش أمعة النفس

ولا رأي عنده في الجمال

أنا منكم شعاره في حياة

ارخصتها مهانة الأنذال

لفتاة يقولها.. وصبي

في نفاق، وتارة في امتثال

ولليلى يقولها، ولراحيل..

وللمعجبين.. والعذال.!

عاش بين المنافقين بلا

علم على كل نعرة ومقال

لعله يتحدث عن الأمعة الذي لا رأي له وإنما مع كل ناعق دون وعي.. لأنه فاقد الوعي.. وفاقد الشيء لا يعطيه، هذه الشريحة البليدة من الناس يكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الفقيرة في ثقافتها.. إلا أنهم دون شك قلة.. تنبذهم مجتمعاتهم إن وجدوا..

أخيراً مع شاعرنا الراحل محمد حسن عواد في ديوان (قمم الأولمب) ومع مقطوعته عيون الجوى.

عيون الجوى قلبي نزيل هواك

فلن تستهيني ان انال جفاك

نزلتُ أسير الروح منك منازلا

حساناً فهل لي حظوة بلقاك؟

لك الله روّتك السماء هواطلاً

يقبِّلن قبل الشمس ثغر ثراك

سحائب يجملن الحياة مع الحيا

إليك ويستقبلن حسن رواك

أما عند روح الحسن فيك حماية

لروحي.. وقد جنت لسحر بهاك؟!

نعيم رضاها في نفيس شبابها

رضاك، فهل تحيينها برضاك؟

أبيات شعرية تطغى عليها عاطفة مشبوبة أكثر عن سواها من قصائد ديوانه لعلها أهم تجاربه في أيكة إعجابه بمفاتن أرضه.. إنه يطرح أمامها دون تحفظ كل ما يشعر به من صبابة.. إنها قمة تفاعل وصفي جمالي أضافها إلى قائمة قممه في هذا الديوان.. لتتابع:

على أي حال، أنت ربة أمرها

وإن تكِ روحي.. إنها لفداكِ

لمثلك فلتسكب نفوس حياتها

عليك أو تفنى في سبيل بقاك

يخيل لي، والحب فتنة عابد

بأن البرايا قد سمت لسناك

قياماً بمحراب الطبيعة ركعاً

سجوداً تهاووا بين فيض نداك

نثرن الهوى طوعاً بأرضك خشعاً

وعلقن آمال الرضا بسماك

ألم يأن لي يا صفوة العين أن أرى

- إذن - مأمناً من شقوتي وهلاكي؟

دعوتك كالرهبان بين صوامع

يرون ملاكاً ممسكاً بملاك

ينادون روح الله في صلواتهم

وحولهم الدنيا سعت لعراك

يميناً.. وما ألغو - بقولة كاذب

(عيون الجوى) إني حليف هواك

هذا العشق المبرح لقطعة من وطنه اسمها (عيون الجوى) التي قال عنها عنترة العبسي في معلقته الشهيرة:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي

لا أعرف شيئاً عنها، ولا أذكر أنني قرأت عنها بشيء من السخاء في توظيف المفردات.. وتوصيف الجمل الشعرية كما قرأته مع شاعرنا.. أشعر أنه أغرق في الوصف.. واستغرق في الوصف كما هي عادة الشعراء حين يهيمون حباً بناقة.. أو دار لمعشوقة.. أو حتى خيمة ممزقة يعلوها الغبار كانت سكناً لحبيبة ما برحت تسكن القلب وتتربع على ناصيته.. من حق شاعرنا أن ينسج من برد شعره قميصاً مطرزاً بأغلى الجواهر.. إنه مجرد شعر لا يكلّف صاحبه أكثر من فتح فم.. أو ورقة يعبث على بياضها قلم.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244