إعجابي الكبير بالرائد الراحل عزيز ضياء - رحمه الله - بمجهوده وما قدم لأمته ليس فيه عنصر العاطفة بقدر ما فيه عنصر الإحساس بما قام به من إبداع قل مثيله أو نظيره.
ورثت جذور علاقاته بوالدي - رحمه الله - فتوثقت ورسخت، ووسمها مزيج فريد من دفء الأبوة، والإخاء، والصداقة، والشراكة.. حظيت بها سنون مسيرتي معه من إبداع أدباً، وصحافة، وإذاعة قريبا أو بعيدا عنه فتأثرت به وتعلمت منه.. عمر هذا الإرث اليوم ثمانون عاما، بدأ عام 1350هـ.. عرف الأستاذ جدي عبدالمقصود، وزامل والدي وكان أحد الرواد الواحد وعشرون الذين رصدهم كتاب (وحي الصحراء) لوالدي والشيخ عبدالله بلخير - رحمهما الله - إلى أن أذن الله برحيل الوالد عام 1360هـ، فآل إلي هذا الإرث، هدهدته وأكملت مسيرته، ولم ينقطع برحيل أستاذنا رحمه الله.
الكبار لا يموتون يرحلون لكنهم المقيمون بيننا، لا تغيب ذكراهم وتبقى إبداعاتهم ولمساتهم وقوافل محطاتهم، نورا يومض بإشارات لها مدلولات عميقة من العطاء الكبير.
لم يبق اليوم على الساحة من رفاق الدرب إلا أهل بيته: حرمه السيدة لاجليلة (ماما أسماء زعزوع) مثال الزوجة الفاضلة.. أول صوت نسائي انطلق من إذاعتنا ببرنامج الأطفال وأول صوت سعودي رحل بعيدا عن الوطن في بداية السبعينيات الهجرية إلى الهند، وتحديدا في إذاعة نيودلهي، يوم لم يأخذ تعليم البنات طريقه عبر مدارس البنات، كانت بجانب زوجها يشكلان ثنائيا فريدا.. قصة كفاح كسفيرين للثقافة والمعرفة.
وسمعت ماما أسماء لراحلنا كل أسباب الراحة، عاشت في محرابه وعاش لورداً في حياته الأسرية البسيطة في جوهرها المترفة في مظهرها، أناقة في كل زاوية منها.. نوعية حياة لا يعرفها الكثيرون آنذاك، كان من سابقي عصره أنيقا في كل شيء حتى غليونه الانجليزي، تراه متألقاً أنيقا في لبسه وكأنه المغادر لمقابلة عظيم أو أمير.
ابنتنا الحبيبة دلال التي تسمعني اليوم والتي يعرفها جمعكم الكريم حق المعرفة، الصوت الإذاعي الناضج وهي أول مديرة إذاعة سعودية، ولا تزال في طريق الكفاح.. دللها الحرف فعاشت معه وبه تفوح منه رائحة الياسمين وعطر الكلمة، ولهذا كما أحسبه سمى راحلنا ابنته دلالاً.
ابننا الحبيب ضياء الفنان الكبير الذي يقتعد مساحة من القمة، وفاز في مسابقات كثيرة وكبيرة من أهمها مدخل مكة المكرمة، حامل القرآن الذي تمرون عبره إلى مكتنا الحبيبة، ولو لم يكن له إلا هذا الإبداع لكفاه شرفاً.
عائلة الأستاذ عزيز التي ربطتني بها علاقة وثيقة كعائلة واحدة، عرفت الثقافة والمعرفة والترابط الأسري، مما أضفى عليها حميمية فريدة، ميزت كل فرد منها بسمات الثقافة والمعرفة والفن بجميع أبعاد الترابط والمحبة.. عاش لعائلته زوجاً وأبا رائعاً قد يهمل أشياء كثيرة لكنه لا يهمل قط أفراد عائلته.. كان كبيراً وباراً.
للأستاذ صداقات قليلة ومعارف كثيرة، معظمها لم تقترب منه مسافة التصاقي به، هناك من لا يزال يختزن في ذاكرته موقفا أو مواقف لعلمنا الراحل ولكنها لا تعدو ومضات من حياته، ويبقى المبدع الدكتور عبدالله مناع في مقدمة من أحب الأستاذ، وصادق، وأنس.. كانت صلة ذات نكهة خاصة، قربته إليه حتى آخر يوم من حياته، ويبقى الدكتور مناع لديه الكثير مما يعرف ويقول دون سواه.
عاش الأستاذ عزيز حبيس مكتبه الصغير الأنيق، يلفه الصمت ولا تسمع فيه إلا طقطقة الآلة الكاتبة البارع في العزف عليها لدرجة التفوق.. كان نادرا في بسط أفكاره على ورقها دون نقل عن مسودات أو تحرير صفحات.
نفس هذا المكتب يمور بالضحكات والقفشات إذا استقبل زائراً ممن يحب ويأنس.. كان رهين المحبسين: بيته ومكتبه. كان رزقه من شق قلمه كداً وسهراً.
عاد من الهند ليكون وكيل مديرية الأمن العام آنذاك لشؤون الجوازات والأحوال الشخصية، حتى تركها وتفرغ لأعماله الأدبية.. عاندته الحياة كثيراً، وحاول أن يعاندها، فبقي حياته معاندا بإصرار ولكنها ظلمته.
يبدو أن الحياة امتدت به لأبقى وحيدا أحدث الركبان وأين هم؟ بالأصح أحدث نفسي، وشهود الحال الذين أسلفت، وهم قليلون جداً.
كانت لنا معاً مؤسسة (الشرق الأوسط للإعلان والثقافة والنشر) سنة 1380هـ، أي قبل خمسين عاماً تهامة آنذاك.. لم يقدر لها النجاح.. عشنا معا مخاض إصدار جريدة (عكاظ) تنفيذا لاتفاق عقده الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار - رحمه الله - صاحب امتيازها مع مؤسستنا، ممثلة في الأستاذ عزيز، مدير تحريرها، حنى عليها، ورسم طريقها، ودفعها إلى الحياة كجريدة أسبوعية مميزة بمفاهيم ذلك العصر بجميع المقاييس إلى أن انقضت تلك الفترة المشرقة من (عكاظ بقصة مؤسفة لجميع الأطراف، شاهداً عليها النبيل معالي الشيخ جميل الحجيلان، يوم كان مديراً للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، وهذه القصة قد أوثقها مستقبلاً وأكتبها للتوثيق بشكل أو بآخر.
عملنا على إدارة مؤسسة الطباعة والنشر لصاحبها السيد حسن شربتلي آنذاك، فكانت فترتها الذهبية إلى ان انتهت انتحاراً.. عموماً مشاريعنا لم يقدر لأكثرها النجاح.. عملنا واجتهدنا وأخفقنا.
الأستاذ عزيز رجل عاش قبل عصره، فكانت أفكاره تسبق زمنه، ولهذا كان مصيرها الفشل.. تبين لي ذلك (بعد أن وقع الفأس في الرأس) كما يقولون فكانت خسارتنا المادية كبيرة بمفهوم ما نملك وذلك الزمن.. تقبلنا الخسارة ولكن لم نتقبل الهزيمة، وانطوت تلك الصفحات على خير ما تطوى صفحات الرجال.
صفحات مهمة من تاريخ الأستاذ غير مكتوبة، على أمل أن أسعد بتوثيقها وأقف معكم إذا امتد بي العمر لأرويها أو لأروي بعضها.
أختتم كلمتي بأربع نقاط:
- الأولى: فاجأتني الابنة دلال، بعد وفاته - رحمه الله - بحقيبة صغيرة، مليئة بمستندات وأوراق ومكاتبات، شاهدة على وقائع حياتي معه.
- الثانية: اختلفت معه مرات عديدة، لكنها لم تتعد الاختلاف الحضاري الذي لم يقطع هذه العلاقة ولم يجرحها قط.. أقولها بتواضع أنه كان اختلاف الكبار.
- الثالثة: كان يحلوله أن يسميه المقربون إليه جداً (بابا عزيز) وكنت أحدهم، وماتت على ما أعتقد إثر بعدي عنه مقيما في الرياض.
- الرابعة: سعدت من خلال (الاثنينية) بطبع أعماله الكاملة في خمس مجلدات، حقيق علينا تكريمه تقديراً وعرفاناً بريادته وعطاءاته.
وفي النهاية.. مارت وتماهت حياة راحلنا الكبير بكل المقاييس، وسيبقى وسمة مضيئة في تاريخ الوطن، كان حياة في حياة بما قدم، رحم الله بابا عزيز.
عشتم، وطبتم وطابت لكم الحياة.
ألقيت في ملتقى النص بنادي جدة الثقافي مساء الثلاثاء 27/3/1430هـ 24/3/2009م