لا أدري لماذا أسمي مدناً مثل بغداد والقيروان ومراكش مدن السلام؟ هكذا اعتدت أن أسميها دون أن أراجع التسمية ومدى صوابها أو صدقها.
لكنها مدن السلام، بغداد التي بناها أبو جعفر المنصور الذي أسس أكبر إمبراطورية عربية إسلامية فرشت جناحيها على مساحة من الأرض في قارات الدنيا.
والقيروان التي بناها الفارس والقائد العربي عقبة بن نافع الفهري، ومراكش الحمراء التي أسسها القائد والفارس يوسف بن تاشفين الذي رفض سكنى القصور وبذخ ساكنيها، واختار أن ينام بين جنده أينما حلوا وعلى فراش بسيط يمده فوق الأرض.
وما هو مشترك بين هذه المدن الحواضر بعدها عن البحر وهو أمر مقصود من مشيديها، فالبحر يأتي بالمفاجآت غير المتوقعة، إذ هو يغري بغزو المدن الساحلية وفي التاريخ حكايات عن هذا الأمر.
كان لا بد من هذا التقديم، وقد عدت من المغرب أخيراً، وكانت مراكش الحمراء وجهتي الأولى، وهذا ما اعتدت أن أفعله كلما حللت بالمغرب ولا يوقفني عن هذه الزيارة إن كان الفصل صيفاً حيث الحرارة اللاهبة التي تعيدني إلى بغداد وسنواتها البعيدة وتوقظ في النفس حنيناً جارفاً للياليها ونهاراتها ووجوه رفاق تلك الأيام الذين يؤججون الوقت الكسول بحيويتهم الرائعة. أو إن كان الفصل شتاء، ولعل شتاء مراكش ألذ شتاء، حيث الشمس الناصعة التي تبدد صليل البرد في العظام.
وفي السنوات الأخيرة حظيت مراكش بعناية كبيرة ومن الملك محمد الخامس شخصياً، واتسعت بسرعة مطردة، وأصبحت متنزهاً كبيراً، سعة شوارعها لا مثيل لها، وهناك دائماً أشجار - وخاصة النخيل - تغرس متزامنة مع كل بناء جديد.
ويمكن اعتبار الشارع أوتوستراد الذي يحمل اسم الملك محمد السادس أطول الشوارع التي عرفتها، حيث يمتد إلى عدة كيلو مترات والأشجار في وسطه وعلى جانبيه، والنخيل دائماً حاضر، فالمدينة تتوفر على غابات نخيل مثمرة بنيت وسطها فيلات وفنادق ومطاعم، وآثر كثير من الأوروبيين شراء مساكن وسط غابات النخيل هذه (أشاروا إلى إحداها وقالوا إنها للممثل الفرنسي آلان ديلون). لكن الرائع في مراكش شتاء هو أن المرء أينما ولّى وجهه متطلعاً إلى جبال الأطلس المحيطة بها سيفاجأ بمنظر الثلوج التي تسكن قممها وتلتمتع مع أشعة الشمس.
وهذا منظر تتفرد به مراكش عن مدينتي الله الأخريين بغداد والقيروان.
عندما أحلّ في مراكش أجدني أتنفس الهواء الذي شممته طفلاً، هواء صاف لا رطوبة فيه ولا يوقظ في الجسد أية حساسية، بل يجعل الصدر رائقاً هادئاً.
والجديد الذي أضيف للمواقع والمباني الحديثة في مراكش محطة القطار التي لا أتردد عن وصفها بالمتحف، وهي كذلك فعلاً، مبنى لا يمكن أن نجد له شبيهاً، وقد ألحقت به مجموعة من المكاتب لبنوك وشركات إضافة إلى المطاعم التي تتوزع ما بين المطاعم الكبيرة، أو الوجبات السريعة إضافة إلى المقاهي الأنيقة التي عرفت بها بعض مدن المغرب وفي صدارتها مراكش وطنجة.
كان لا بد لي من هذه الأيام المراكشية، حيث يلذ لي الذهاب إلى ساحة جامع الغنا ومنها تلوح للناظر منارة المكتبية ذات المعمار المغربي المتميز، ولا بد من الدخول إلى الأسواق العربية القديمة التي تتداخل وفقاً لاختصاصاتها، ولا بد أيضاً من الجلوس في المقهى الذي يطل على الساحة لاحتساء كأس من الشاي الأخضر المنعنع الذي يقدم في الأباريق المغربية الشهيرة.
تلك الزيارة استرجاع لما تشتت فينا، إعادة لجمعه فبعد مراكش هناك أكثر من رحلة إلى الدار البيضاء والرباط والقنيطرة، هذه المدن التي تعج بالنشاط الثقافي وعلى رأسه معرض الدار البيضاء للكتاب الذي اعتدت حضوره في السنوات الأخيرة بعد أن تكاثر عدد مؤلفاتي سواء القادمة للمعرض أو تلك التي أعيد طبعها في دور نشر مغربية.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902» ثم أرسلها إلى الكود 82244
تونس