عند نهاية الإجازة الصيفية بالضبط تكون عائلتي في بداية الستينات الميلادية قد استعدت إلى الرحيل إلى عنيزة، تلك المدينة النجدية العريقة.
كانت (عنيزة) هي الإجازة المقدمة كل عام، والأهم أنها مكان العودة والحنين والشوق والأهل والأصدقاء الصغار، حيث تختلط الطفولة بحكايات الأجداد والعودة إلى البدايات الأصيلة.
تبدأ الرحلة الطويلة من البحرين بالطائرة حتى الظهران، ومن هناك بالطائرة أيضاً إلى الرياض العاصمة، حيث الخال محمد ينتظرنا للبقاء عنده أياماً قليلة ريثما الاستعداد لرحلة (عنيزة) بالبر.
في الواقع لم تكن (الرياض) سوى مدينة للعبور إلى مدينتنا، ورغم رقي المدنية آنذاك من شوارع وبنايات وأسواق، إلا أنها لم تكن بإغراء (عنيزة) والشوق لها، لذلك كانت مكاناً جيداً للانتظار ولأيام قليلة فقط. وفي الأيام القليلة تجرى مفاوضات مع (وانيت) وسائق لنقلنا إلى مدينتنا. ورغم وصولنا بعد ساعات طويلة من الإرهاق والعناء إلا أن ذلك الترحاب الكبير الذي نلقاه في بيت جدي لأمي يمحو كل شيء.
أتذكر الآن صوت النسوة من خالات وبنات وأقارب أخريات وهن يتبادلن الفرح والابتسامات في حوش البيت الكبير، متفقات كلّهن على كلمة واحدة: أهل البحرين.. جو (وصلوا). لقد جاء أهل عنيزة من البحرين حيث يقيمون مؤقتاً، ولا يدرون إنها إقامة طالت جداً!
كان أبناء الخالات أيضاً بالانتظار، بل حتى لصبيان الحي الذي يتطلعون إلى هؤلاء الذين جاءوا محملين بالحقائب الكبيرة والهدايا من بلاد بعيدة، وكأنهم ينتظرون شيئاً من هذا (الوانيت) المرهق من السفر!
كانت (عنيزة) مدينة الترحاب الشهيرة تملأ روحنا ووقتنا برحابتها ورمالها وبساتينها وأزقتها، وتذهب كل الشهور الثلاثة أو الأربعة أحياناً في غمضة عين.
فمنذ زمن طويل وهذه المدينة ترحب بالجميع من رحالة عرب وأجانب ومستشرقين وباحثين كانوا يجدون فيها واحة الصحراء التي تمحو عنهم كل صد المدن الأخرى. كانت المدينة التي لقبها عن جدارة الكاتب اللبناني الشهير (أمين الريحاني) ب(باريس نجد) عندما زارها في العشرينات.
فقد كان هناك وقت طويل للفرجة على أسواقها المتنوعة والكبيرة وحوانيتها المتراصة. بل كانت حتى بيوتها الطينية ومجالسها فرصة رائعة للهو البريء.
لكن أجمل الأوقات على الإطلاق هي تلك العصريات، المملوءة بالسعادة التي كنا نقضيها مع بقية أهل المدينة على رمال (النقود) الحمراء الناعمة بشكل لا يصدق. كانت سلوى للعب بالرمال والتمتع بنعومتها والنوم أحياناً عليها.
لقد كان على الطفل في (عنيزة) أن يسعى إلى الرفقة، وأن يبحث عن الفرح، ويلعب ويلهو طوال النهار حتى يلهث وينام عند أقرب مخدة في الليل الذي لا ينيره سوى مصابيح البترول (التريك)!
لم تغب مدينة (عنيزة) تلك المدينة النجدية العريقة من ذاكرة طفولتي، لم تغادر روحي ولم أغادرها. فبجانب رمال النفود الحمراء الناعمة كالحرير، كانت الرحلات إلى بساتين (المهيرية) الغاصة بعناقيد العنب المتدلية من كل صوب.
كانت (المهيرية) واحدة من البساتين الجميلة التي تحاصر المدينة من جميع الجهات وتطعمها بكل ما تحتاج من خضراوات وفواكه وحتى حبوب مثل القمح وغيرها. كانت مزروعاتها هائلة وحقولها لا تعد ومساحاتها لا يمكن الوصول إليها جميعاً.
إما عيونها الطبيعية المتعددة فقد كانت مياهها الباردة تنهمر على ظهورنا العارية والطرية وتجعلها ترتجف من البرد ونحن في عز الصيف.
في (المهيرية) كنا نجد كل أنواع الفواكه والخضراوات تتناثر على أراضي خصبة لا تعد.
وكان هذا الزرع المدهش يجعلنا نلهو به، فنقتطف الطماطم هنا، ونأكل العنب في مكان آخر، ونتقاذف الرمان من أشجاره الكثيفة، ونأكل حتى نشبع من تلك الجنة الصغيرة، فقط كانت مطاردة حارس المزرعة لنا تفسد علينا بعض المتعة!
وفي أسواق (عنيزة) نجد كل شيء. فهناك البضائع وهناك الناس من شيوخ وأطفال ونساء، حيث المرح واللهو في أزقة السوق وصراخ الباعة ومساومات الفقراء وروائح البخور والزعفران والعنب والتوابل.
ومع بدء المساء كانت المجالس تستقبل كل الناس حتى الأطفال الذين يمرحون في أحواش البيوت واسطحتها على ضوء قمر بعيد أو على نجوم باهتة. غير أن كل هذا اللهو وهذا المرح العجيب في أيام الطفولة الأولى في (عنيزة) كان ينتهي بوصول تلك الشاحنة الصغيرة (الوانيت) التي تقف أمام باب بيت جدي في صباح باكر من بدايات سبتمبر حيث يبدأ السائق بتحميل الحقائب استعداداً للرحيل إلى البحرين مرة أخرى.
عند الرحيل كانت علب حلوى (الكليجا) وصناديق التمور والبرحي تملأ السيارة في كل مكان.
كانت الحلوى والتمور تختلط كثيراً بالدموع والوداع الطويل والعناق الذي لا ينتهي، وبالحلف بأغلظ الأيمان بالعودة السريعة إلى (عنيزة). النساء يبكن بحرقة ونحن الأطفال تنهمر دموعنا على فراق أحبة اللهو وأصدقاء الفرح في الأزقة ورمال (النفود) ورفاق بساتين (المهيرية) الرائعة.
كانت دموع حارة على فراق مدينة جميلة لم أنس حتى الآن طعم ملوحتها!
albassamk@hotmail.com
المنامة