ما العوامل الوراثية التي ينتج عنها شخصٌ يحمل في نفسه موهبةً عظيمة، وما الذي يجعل ذلك ممكناً في بعض الأحيان وغير ممكن في معظمها؟
اختلفت آراء علماء الجينات والوراثة حول هذا الموضوع، ولكني سأطرح هنا رأياً خاصاً بي، خلصت به من خلال مراقبتي لقوانين الطبيعة البشرية، مع الاستناد على ما تحتفظ به الذاكرة من قراءات، من دون الاستشهاد المباشر أو النقل. فثمة آراء مطروحة بقوة تقول إنّ الموهبة العظيمة، في مجال معيّن، تكون في الغالب ناجمةً عن كبتٍ عظيمٍ في السلالة يمتد إلى عشرات الجدود، ينفجر مرة واحدة في فرد ينحدر من هذا النسل الذي كان يتطلّع بإعجاب إلى ذلك المجال المعين، واكتفى بالتطلّع دون الممارسة.
إذا كانت المسألة كذلك، فالعكس بالعكس إذاً، إذ يكون الشخص العاجز عن الاستيعاب في مجال معيّن، هو نتيجة فراغ ظلّ متوارياً لأجيال عديدة في سلالة ملأت أعمارها إبداعاً وتعمّقاً في ذلك المجال. وهذا ما لا يمكن القياس عليه، فكل دراسة تتبنّى التنظير بهذا الاتجاه سيكون مصيرها الشتات في منتصف الطريق، ثم العودة إلى الصفر في نهاية الأمر.
هكذا انتهت الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، وكأنها تبدأ لتنتهي بالحيرة نفسها، وكلما زعمت واحدة منها أنها استطاعت العثور على العوامل الحقيقية بالشكل الحاسم، جاءت الأخرى لتؤكد أنّ التي سبقتها لم تكن مبنية على أسس صحيحة، أو أنها كانت تفتقد المنهجية والدقة الكافيتين.
إذاً لابدّ من التخمين، والرمي نحو جهاتٍ ثلاث توصلنا إلى الخلاصة:
1 - علينا التفريق أوّلاً بين الموهبة والخبرة، فقد تكون سلالة بأكملها تتوارث مجالاً معيناً بحيث يكون إتقانه تحصيل حاصل، وهنا تنتفي الموهبة وتتأكد الخبرة.
2 - قد تتميّز سلالة عريقة ببعض الموهبة، وهذا ما يجعل حصول فرد منها على موهبة كاملة أمراً مستحيلاً.
3 - لابدّ أنّ ثمة سلالات من البشر تخلو تماماً من كل موهبة عظيمة، وهذا ما تصطدم به معظم الدراسات التي تُبنى على نماذج عشوائية تتم متابعتها إلى عشرة أجيال في أغلب الحالات.
الخلاصة:
في تصوري أنّ فرص ظهور شخص يحمل موهبة عظيمة في مجال معيّن ضئيلة جداً في حال انحداره من سلالة نمطية أسفرت عن أسرة تنتهج أسلوباً واحداً للعيش، إذ إنّ تراكمات التجارب تترسّب في الأصلاب أيضاً، ومن ثم تبحث لنفسها عن شرارة الانفجار في شخص مشتت الانتماء إلى أكثر من بيئة مشبعة بمتناقضات الظروف والطموحات، بالإضافة إلى إحباط متوارث يصل إلى حافة الفقدان، فقدان الاتزان والثقة بالنفس، وفقدان الأمل في مستقبل متغيّر نحو الأفضل.
فباختصار: لا تظهر الموهبة العظيمة إلاّ في محيط ينتظرها من دون أن يتوقعها، كما أنها تختار صاحبها وفق شروط لا تنطبق عليه وحده، إنما تتوافق جذرياً مع متغيّرات السلالات التي وصلت بنسلها إليه، ولم يكن لها أن تمتد أكثر على حالها إلاّ بضياعها في دماء أخرى.
يقول هوميروس:
هذا هو الآن، نشيد الزمان
وغناء السلف،
والقصيدة الحاضرة..
هذا حداء القافلة التي لا تفتأ تخبُّ
في بيداء الأزل،
إلى الواحة المفقودة في متاهة الأبد..
فـ.. أنشد يا هوميروس..!
f - a - akram@maktoob.com
بيروت