بعد رحيل محمود درويش الفاجع والمفاجئ في 9-8-2008 كنت أبحث جاهدة عن مخلوقات تحسن الصمت لا لشيء إلا لأن مصابا كهذا جدير بصمت مطبق خصوصا إن كان الناطق لا يحسن الكلام. وكغيري من شعراء جيلي وأجيال سابقة ولاحقة تابعت بشغف إبداع درويش وأحببت روائعه لكنني بعد رحيله كنت أبحث بين صخب المراثي واللقاءات الكثيرة مع أصدقاء الشاعر في كل مكان عن صمت يليق برحيله العالي.
ولأنني أميل للصمت حين أُكبِر شيئاً قررت الصمت تعبيراً عن رثائي للشاعر الراحل، غير أن ما يثار من صخب -مقلق في أحيان كثيرة- استفز صخرة الصمت في روحي فقررت اليوم الكلام عن أمرين تحديدا أقلقا صمتي ولم أستطع معهما متابعة صومي.
أما الأول فما تفضل به بعض (الشعراء) متبرعين لإكمال نص درويش (سيناريو جاهز) لأنه ختم نصه بقوله:
ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة ْ
.. وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو
إلى آخره
وهنا التبس الأمر على شاعرين (ربما أكثر) هما عبدالكريم معتوق ويوسف الديك فظنا أن في هذا دعوة فورية من درويش بعد رحيله أن (يا معشر الشعراء أعينوني بإكمال هذا النص) وللأسف لم يدر في خلديهما أن الشعر ليس مجرد لعبة لغوية؛ إذ إن درويش وضع السيناريو لواقع هو فيه وإكمال السيناريو يقتضي بالضرورة تغير الحال، أما والحال على ما هي عليه (القاتل والضحية ما زالا في الحفرة ولمّا يتغير شيء) فلا أحسب -ولا يفترض أن يحسب غيري- أن درويش عجز عن إكمال السيناريو بنفسه.
أمر آخر ينبغي الإشارة إليه هو سردية النص والنص المفتوح إذ لا نهاية لحبكة الحدث هنا، ولا أدري هنا ما الذي حدا بالشاعرين لمثل هذا الاندفاع لإكمال السيناريو غافلين عن هكذا أمر واضح للقارئ بله الشاعر إذ الأولى به أن يكون أكثر إلماما بالمسكوت عنه في النص! وربما لأن كاتب النص هو درويش!
وإلا فلم لم يسارع أحد من الشعراء لإكمال نص لابراهيم محمد إبراهيم يقول فيه:
صحت: يا.. وانكفأتُ
فمن يكمل اللحن بعدي؟
سأضع تساؤلي هنا وأنهي هذه الوقفة مع سؤال آخر بريء للشاعرين ماذا أضفتما لنص درويش؟!
لغة؟ إيقاعا؟ بعداً سردياً؟ أم أنكما وضعتما نقطة لم يشأ درويش أن يضعها في نصه عامداً متعمداً لا لأنه عجز عنها؟!
إن كان مُسوغ نصيكما محبة درويش فكم كان جميلا أن تكتبا نصا منفصلا عن نصه على طريقة المعارضة أو المجاراة ليحتفظ النص اللاحق بالمحبة والسابق بخصوصيته، أما أن تشاركا درويش نصه دون موافقته فلا أحسب ذلك أمرا يليق بشاعر يعي معنى المشاركة؛ إذ أراها أن يجلس شاعران بتراض وتوافق ليكتبا نصا مشتركا أما أن تنتظرا رحيل الشاعر لتتبرعا بذلك -فاعذرا صدقي- ما كان ينبغي لكما ولا لغيركما.
الأمر الآخر الذي لم يحرك صمتا وحسب بل حرك حزنا على معان عديدة من بينها (الإنسان، الشعر، الأصدقاء، والنشر) هنا سأتحدث عن آخر أعمال درويش الذي صدر عن دار الريس (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي) العنوان الذي اختاره إلياس خوري، هذا العمل الذي أخبرنا (أصدقاء درويش) بأنهم هم من قرر نشره وقالوا: بتصريح من درويش!
هنا أيضا أضع بعض التساؤلات غير الملزمة لأحد بالإجابة؛ على رأسها: أين خصوصية الإنسان فضلا عن الشاعر حين ينتهكها (الأصدقاء) بحجة المحبة والصداقة وبحجة أكبر (أنك يا درويش صرت عاماً) أنت لست لك يا درويش كما قلت بل لهم ولنا وللكل وخصوصياتك مشاع لنا جميعا هذا تأويل أصدقائك لقولك (أنا لست لي).
والحق أقول إنني أسأل هنا كل شاعر -ولا أتساءل هذه المرة- هل تحب أن يقرأ أقرب المقربين مسوداتك الأولى؟ بل هل تحب أن يقرأ أحد -فضلا عن النشر- ما لم تقرر أنت شخصيا نشره لأسباب لا يحق لمخلوق أن يسألك عنها؟
ربما يرد بعض الشعراء ب(نعم)
لكن درويش قال لا، نعم قال لا، عودوا يا أصدقاء درويش لمقابلة التلفزيون الأردني مع درويش (عام 1997) حين صرّح بأن الكتابة عملية سرية وأكد أنه لا يحب أن يطلع أحد على مسوداته ولا هذياناته الأولى (بتعبير درويش) وأنا بصفتي قارئة لدرويش أولا وقبل كل شيء سأصدق درويش وسأقرر عن نفسي مقاطعة الإصدار الجديد عن دار الريس لأن درويش لم يقرر نشره أولا ولأن به انتهاكا لخصوصية الشاعر في نشر أنصاف نصوص ونصوص غير مكتملة وحتى المكتمل منها حين لا يقرر الشاعر وحده نشره، وأجزم بأن ما زال (أصدقاء) درويش يخبئون لنا الكثير نتيجة تفتيشهم في أوراقه بتصريح من (الصداقة والمحبة).
بعد صدور ما أجمع عليه (الأصدقاء) من أوراق درويش عن دار الريس قرأنا مقالا للشاعر شوقي بزيع يقف به على بعض الأمور في الإصدار، والحق أقول إني قلت في نفسي (ليته سكت) في منتصفه دون تعليقه على كسر الوزن في هوامش درويش ومسوداته التي قرر الأصدقاء وليس درويش نشرها ومن ثَمّ لا يحق لأي شخص أن ينقد أو يقيم وزن نص لم يقرر الشاعر صورته النهائية وأحسب أنه يفهمني بصفته شاعرا وأستغرب أنه لم يقف على مقابلة درويش تلك التي يؤكد بها خصوصية الكتابة لديه، ثم ليته نطق بجرأة ليقول للجنة الأصدقاء: ما كان ينبغي أن تقتلوه مراراً هكذا!
وهنا أقول للشاعر شوقي بزيع: لا تنس أن تنهي كل نصوصك وتقيم أوزانها قبل نومك الليلة، إذ لا تأمن أن يأتي أصدقاء بعدك ليتبرعوا بجمع أوراقك وكل متعلقاتك الشعرية الخاصة التي منحهم الموت حق انتهاكها، ثم يؤخذ عليك أنك كسرت الوزن ولا حجة لك حينها!!
هنا أنا لا أدافع عن شاعرية درويش لأنها تدافع عن نفسها كما قلت، لكني أدافع عن إنسانية درويش التي انتهكت بالعبث بأوراقه كما أدافع عن إنسانيتك أنت أيها (الشاعر) خشية أن تنتهك حرمة أوراقك وأدافع عني خوفا على أوراقي وهي كل ما أملك.
الأمر الآخر الذي تمنيت على شوقي بزيع لو سكت عنه اقتراح لجنة التفعيلة التي ستراجع لدرويش مجموعته أو فلنقل (أوراقه المأخوذة من قبل لجنة الأصدقاء للنشر) وهنا تذكرت نص بزيع في رثاء درويش (لا مرثاةَ لائقةٌ بعجزك عن قراءتها).
وصدقاً أقول كان أجمل ما قرأت من رثاء لدرويش وإني لأتعجب هنا كيف لم يتأت لشاعر كتب هذه المرثية أن يتحدث في مقاليه المنشورين في الحياة عما يجب التحدث عنه وهو تصرف (لجنة الأصدقاء) في أوراق درويش ومسارعة رياض الريس للنشر لأسباب قطعا ليس من بينها الصداقة. ولا يلام الرجل -الريس أعني- إذ إنه صاحب دار نشر أراد إحراز سبق خشي أن يأتي به غيره؛ يؤكد ذلك ما جاء في مقاله المدافع به عن دار النشر وعن حقه في الحصول على المخطوطة وليس عن حق الشاعر الإنسان وخصوصيته.
ختاماً كأني بدرويش يصرخ:
يحبونني ميتاً ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا
وصولاً لآخر النص في حديثه عن اللصوص الثلاثة: الشاعر والقاتل والقارئ
قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين، أن
تقتلوني رويداً رويداً لأكتب شعراً أخيراً لزوجة قلبي. ولكنهم
يضحكون ولا يسرقون من البيت غير الكلام الذي سأقول لزوجةِ
قلبي...
وكأنه كان يرى بأنهم سيسرقون حتى الكلام الذي لم يقله!
* * *
*وصلة إلكترونية لمقابلة درويش التي يتحدث بها عن خصوصية عملية الكتابة
http://www.youtube.com/watch?v=mvIRizlwnGo
k-alkhonin@hotmail.com
شاعرة وأكاديمية عمانية مقيمة بالمملكة المتحدة