ينتمي كتاب (القبيلة والقبائلية) إلى نوع من الدراسات الاجتماعية تسمى الاثنوميتودلوجيا وقد تأسس هذا المنظور التحليلي على يد عالم الاجتماع (هارولد غارفينكل) وتهدف أي دراسة من خلال هذا المنظور إلى دراسة (الفعل الإنساني) باعتباره كمسرد هو تمثيل لوحدة حياتية متماسكة أو (الرجوع إلى الأشياء ذاتها) عبر ممارساتها اليومية أي الفعل في خصوصيته العادية من خلال سياقه الواقعي.
وبذا فإن كل مبحث ينطلق من ذلك المنظور يهدف إلى فهم وملاحظة الممارسات الخطابية التي يتداولها الأفراد في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم بينهم سواء على سبيل التعارف والتواصل أو على سبيل التناكر والصراع).-1-.
باعتبار (أن الفكرة العلمية أو الفلسفية أو الأدبية لا تنبثق فقط من جوهر خالص أو عقل فعّال أو مستفاد ولكنها تنبع من متاهات أو دروب الحياة اليومية) -2-
وأن وظيفتها (لا تنفك عن الشروط الواقعية التي جعلتها ممكنة: الحياة اليومية، المؤسسة، الطبيعة المحايثة للواقع)-3-.
أي كيفية التعبير عن الفعل وليست أنظمة هذا الفعل في تجاوز واضح للمحتوى المتعالي لتحليل ناتج الفعل من خلال التنبيه) إلى كيفية تشكيل المعنى ضمن أداء الفعل أي تأويل السياق من طرف الفاعل الاجتماعي، وهذا التأويل ليس عملية زائدة على الممارسة أو قاعدة مستقلة عن الفعل وإنما هو تقنية في القراءة أو الوصف أو التحليل أو التشريح محايثة للممارسة ذاتها) -4-.
فما هي العلاقة بين الإتنوميتودولوجيا والثنائيات؟.
الثنائيات هي إحدى أهم طرائق ممارسة المسرد اليومي للفرد، والمسردية (أنماط التعبير عن الفعل في سياق معين) - 5 -.
وهي من موضوعات الإثنوميتودولوجيا، كما تعتبر الثنائيات من أهم آليات إنتاج ترابط منظومة العلاقات اللغوية التي تتأثر وتؤثر في المسردية، وهذه المنظومة أو (الترابط الفعلي أو نظام العلاقات اللغوية أو التواصلية أو التداولية بين الفاعلين الاجتماعيين)-6-. هي أيضا من موضوعات الإثنوميتودولوجيا.
وهكذا تعتبر الثنائيات جزءا من مبحث الإثنوميتودولوجيا، لتأثيرها في تأليف العلاقات بين الأفراد سواء على سبيل التعارف والتواصل أو على سبيل التناكر والصراع، ووفقا لطبيعة التأليف المسرديّ التي تتحكم فيه الثنائيات فهي تقوم دائما بوظيفة (تداوليةّ).
أول ثنائية سأبدأ بتحليلها في خطاب القبيلة والقبائلية هي الثنائية التداولية وصممت لها قانونين هما (قانون الاحتباس الدلالي والقانون الإحيائي)، وسأجل الحديث عن ثنائية العنوان، لاعتقادي بأن هذه الثنائية هي من أهم مُؤسسات حقل الخطاب، وأقصد بهذه الثنائية (الذاكرة والواقع وارتباطاتهما).
تضم الثنائية التداولية نظامين معاشيين هما (السنن والأيام) وأولهما صوري وهو الذي يتمثل عبر الذاكرة الجمعية والآخر حيوي وهو الذي يتمثل من خلال الفعل اليومي أو المسرديّ.
والنظام المعاشي الممارس من خلال اليوميات هو حاصل سلسلة دلالات مسبقة أو دستور دلالي، وتلك الدلالات هي التي تتحكم في إنتاج وحركة الممارسات اليومية للفاعل الاجتماعي، (المعنى الاجتماعي) وهكذا تنحبس الممارسة اليومية للفاعل الاجتماعي داخل دلالة أو مجموعة دلالات لمنحه (معنى حكائيا مستمر الأثر) يؤثر على أنماطه التعبيرية ومنظومته التواصلية، باعتبار رصيده من (التجارب المتوارثة إلى درجة تصبح معها الأسماء والألسنة والثقافة مادة لتمييز شخص عن شخص..، أي نحن وهم) ص 50، نحو كل ممارسة خارج احتباسه الدلالي.
ويعبر الغذامي عن القانون الإحيائي في حقله الخطابي بمصطلحين (مصطلح اللعبة ومصطلح الحيلة الثقافية).
(يظل ذا قدرة على الاحتيال على التحديات وله قدرة على إعادة إنتاج نفسه بصيغ متنوعة) ص 268، (لعبة أبدية ما تختفي حتى تعود في خطاب القبيلة والقبائلية) 69 لجأ الإنسان إلى حل جنوني يتناسب مع جنونية مخاوفه وهذا الحل هو العودة إلى الأصوليات المرجعية (ص 205 عن كينونة بشرية ما تغيب الا لتحضر ولا تحضر الا لتجلب معها تاريخا من الطبع البشري المتكرر وإن بصيغ شتى)، (234 ص) حيل الثقافة في تأسيس النسق وإدامته وهي الحيلة القديمة الحديثة في توظيف الحكاية، وتفعيل دورها (ص234).
وهكذا نجد أنفسنا أمام قوالب تعبيرية تٌكّون قاعدة بيانات القانون الإحيائي عند الغذامي، قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة أو متناقضة لكن لو رسمتها وفق سلسلة ذات تصور إنتاجي مخصوص لاكتشفت وحدتها العضوية، فلاحتيال والإنتاج واللعبة والحضور والجلب والعودة والالتجاء والأصل والطبع والتأسيس، كل تلك المكونات للقانون الإحيائي تشترك في خاصية (الاستظهار من مح فوظ سابق وتطبيقه) وهذه هي وظيفة القانون الإحيائي. أما قانون الاحتباس الدلالي فيقدمه عبر آليات صياغية عدة منها) الهويات الكبرى والصغرى) (استدعاء الهويات العتيقة) (غلبة النسق) (المفعوليّة) (عودة الأصوليات) (صيغ نسقية انحيازية) (الأصل الافتراضي) (الرصيد الثقافي) (المرجعيات الرمزية) (الطبقة الثقافية) (العقيدة الثقافية) (النزعة الثقافية).
إن الاحتباس الدلالي لا يتم إلا عبر تفعيل الذاكرة، وتفعيلها هو(القانون الإحيائي) والحكايات والأساطير والأمثال والشعر هي التي تٌمثل القانون الإحيائي عند الغذامي لأنها هي التي تٌنتج قانون الاحتباس الدلالي (كلما ترجمت البشرية واقع حياتها في قصص وحكايات وأمثال وأشعار، فإنها بهذا تٌحول وقائع حياتها إلى منظومة مفاهيمية مصطلحية حيث تقوم الحكاية بدور المخزن الذهني الذي يرسم سيرة كل ما يأتي بعده) ص 13، وهذا القول يمثل قانوني الثنائية التداولية، القانون الإحيائي أي المدونة السردية قصص وحكايات...
وقانون الاحتباس الدلالي (المفهوم والمصطلح والسيرة) باعتبار أن الفعل اليومي يتحرك في ضوء تعاليمهما.
(وكل أمة لها مرجعياتها الرمزية في الماضي عبر تصورات تاريخية ظرفية كانت هي مكونات الوجود الأصلي) ص 205، والماضي هنا هو الذي يمثل هذه المرة القانون الإحيائي والأصل هو الذي يمثل الانحباس الدلالي.
(ما تختزنه القصص والحكايات من رمزيات معنوية وقيمية) ص 15، وهذا هو الذي يكوّن قاعدة بيانات قانون الاحتباس الدلالي في حالة تطبيق القانون الإحيائي ليصبح محتوى الاحتباس الدلالي) بمثابة حقيقة مطلقة) ص 25(تصنع منظومة المفاهيم) ص15 وهو بحث (مستقرأة من بطن السرديات) ص 14، لتكوين الهوية الخاصة إطار الاحتباس الدلالي؛ (كل ذلك.. لإحداث فروق تمييزية ولصناعة نسق متعال ومنفصل، عبر صناعة الأنا في مقابل الآخر والربط بين صيغتي النسب والحسب) (15).
(فالأنا) هي جوهر الاحتباس الدلالي في النهاية.
ومن خلال الشواهد السابقة نستنتج أن الغذامي يربط بين قانون الاحتباس الدلالي الناتج عن المدونة السردية للفاعلين الاجتماعيين وبين القانون الإحيائي الذي يعيد تفعيل دلالات المدونة السردية من خلال نظام مسردي (الفعل اليومي للفاعل الاجتماعي) وأثر القانونين على العلاقات بين الأفراد سواء على سبيل التعارف والتواصل أو على سبيل التناكر والصراع. كما أن الغذامي يمثل للثنائية التداولية مع قانونيها وممثلاتها عبر عروض علائقية منها: (الأصل وهي خاصية وراثية افتراضية تجعل المرء يؤمن بأن له موروثا يختلف عن غيره وأن موروثه ذو خصائص تميزه وتترقى به) (عقيدة ثقافية صارمة الدلالة) ص 245 (نزعة ثقافية كونية تمنح أهلها عقيدة في التميز، ..
مخترع ثقافي تحّول مع الزمن إلى ضرورة ثقافية، ...
نسق ثقافي كلي وأزلي (ص 266) الطبقة الثقافية والتمييزات العنصرية) ص 234 ونستطيع مما سبق أن نضبط خارطة الثنائية التداولية وسلمها المعرفي من حيث:
1 - التعريف (إعادة نظام معاشي ونمذّجته).
2 - القوانين) الاحتباس الدلالي والإحيائي).
3 - الممثلات (العرقية والعنصرية) ومشتقاها(النسب والحسب).
4 - الأدوات (اللغة والصورة والرمز) مكونات الدلالة.
5 - شعارات الثنائية (الرصيد الثقافي) (العقيدة الثقافية) (النزعة الثقافية).
6 - خصائصها (التفكيك والتركيب).
وهاتان الخاصيتان مرتبطتان بقانوني الإحيائي (التفكيك) والاحتباس الدلالي (التركيب)، فالثنائية التداولية هي مجموع علاقات وقائعيّة ينتجها نظام معاشي مُعاد ومنمّذج وفق قانون إحيائي مخصوص، فكل علاقة بالواقع) تمر عبر وسائط أو توسطات أو أوساط تجسدها أو تمثلها اللغة والخطابات أو الصور والتمثلات أو المؤسسات والأدوات).-7 - منتجة علاقات وظيفية مختلفة منها ما يتعلق بعلاقة المكسب والمنجز مصدر التركيب، أو بعلاقة العائق والمانع مُنتِج الأزمة مصدر التفكيك.
وهكذا فإن الممارسات الوقائعيّة (تختزن إمكاناتها..، بحيث أن من يطلقها أو يتداولها يتغير بها ويغير سواه، ويسهم في إغنائها وتطويرها أو تغييرها بقدر ما يحمل على تحويل علاقته بالواقع ويسهم في تغيير صورته على صعيد من صعده المختلفة المتعددة) - 8 - .
لا أقصد بالضبط أن خطاب القبيلة والقبائلية يروّج للعقل التداولي، وإن كنت أفضل أن أقول إنه يروّج للعقل الإحيائي، وهو ما سأتحدث عنه في الجزء التالي من خلال متابعة تحليل الثنائية التداولية والمقارنة بين العقل الإحيائي عند الغذامي من خلال خطاب القبيلة والقبائلية والعقل التداولي عند علي حرب
-4،3،2،1 الإزاحة والاحتمال، محمد شوقي زين، ص288، 286(بتصرف)، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008م.
- 6،5 السابق ص 288.
- 7، 8 أزمة الحداثة الفائقة، علي حرب، ص 185، 189المركز الثقافي العربي 2005م. - بتصرف -
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة