(الله يلعن النسوان).. يقولها رجل من هذا الزمن كما قالها من قبله رجل آخر من أزمان أخرى موغلة في البدائية.. لكن حقيقةً، متى يقولها هذا الرجل وذاك من قبله؟ أي متى يشعر بالحاجة إلى نطق هذه المسبّة التي يجمع فيها النساء كتلة واحدة ليقذف بهن دون تمييز خارج نطاق وجوده؟ وبما أن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، فالإخراج والنفي مكونين أساسيين في عملية اللعن. متى يصل الأمر بذاك الرجل إلى حد الرغبة في ضغط زر الإقصاء ودفع النساء بكتلتهن إلى الخارج.. أي متى يطفح بهن كيله؟
إن اللعن الجماعي العمومي للنسوان هو ما يثير التساؤل، أما لعن ذلك الرجل نساءه في داخل بيته، زوجته وأخواته وبناته.. فحدث ولا حرج. نعم... هو لا يتحرّج من لعنهن قياماً وقعوداً، وهن ما عدن يجدن حرجاً في تحمل اللعن منه لكثرته. لكننا نتحدث عن رجل يلعن النساء كافة من باب (ذبحونا النسوان)، لذا فإن لغة ذلك الرجل تعرض الوظائف الإيحائية للعنات الجماعية للنساء، وظائف تكشف عن الخلفية الاجتماعية والكوابح النفسية والمواقف الايدلوجية كالتعصب الجنسوي والعنصري والسلطوي. وكما يؤثر اللعن في السامع بشكل عاطفي يثير حنقه وغضبه، فإنه أيضاً يُرضي حاجات عاطفية عند الناطق به.
اللعن فعل قولي، بمعنى أنه ليس فقط قول منطوق، بل هو سلوك يُجسّده الصوت فيعكس منطلقات اللاعن الثقافية والاجتماعية والنفسية. ورغم أن أفراد مجتمع ما يتحدثون لغة واحدة مشتركة، إلا أن استعمال الكلمات داخل تلك اللغة يختلف من فئة في أسفل السلم الاجتماعي إلى فئة في رأس ذلك السلم. لذا فإن التلفظ بالكلمات البذيئة التي يندرج تحتها اللعن يتناقص تدريجياً في عملية تصفية اضطرادية تصاحب رقي أفراد الطبقات الاجتماعية وتحسن أذواقهم وتنقية صفاتهم الخلقية.
أما الشكل الرسمي المثالي للغة المستعملة في المناسبات الرسمية وعلى الأوراق الرسمية وفي التصريحات الرسمية فقد يخفي مدى هبوط المستوى الاجتماعي والثقافي للاعن، فاللعن يترأس قائمة الشتائم المكبوتة، قائمة ما لا يجب أن تقوله الكلمات، قائمة يحرص ذلك الرجل جاهداً على تفادي النطق بها على الملأ كي لا تنفضح انتماءاته الخلقية البائسة. لذلك فإن اللعن كونه ممارسة شفهية، فهو في معظم الأحيان منطوق به في دوائر ضيقة وعلى مسامع تعد على الأصابع، لضمان عدم تسربها للآذان المستهجنة للعن والمتقززة منه.
إذاً، في حين يتحكم الدماغ في عدم إطلاق الكلمات الجارحة على عواهنها في أوقات يحضر فيها شهود عيان مستنكرون وشهود (آذان) يوثقون، إلا أن القلق العصبي والحالة العاطفية يمكن أن يخدرا القدرة على القمع اللفظي، فتنفلت شلالات اللعن غير متحسبة. لكننا رغم ذلك لا يمكننا اعتبار اللعن عشوائياً أو اعتباطياً، بل هو في كل الأحوال محكوم بقصدية وهدف واضحين. في كتابه (لماذا نلعن Why we curse)، يقدم الدكتور تيموثي جي Dr. Timothy Jay نظرية اجتماعية نفسية وعصبية للعملية الكلامية يظهر من خلالها أن اللعن ليس مجرد نطق كلمة بذيئة من متحدث غافل فيدرك أبعادها السامع مصادفة. إن للعن بالضرورة معنى محددا لا يمكن فهمه فقط بإدراك معاني الكلمات، فالقواميس لا تفيد البتة في الوعي بمقدار استحقار ذلك الرجل مثلاً لكل النساء المنعكس في قوله: (الله يلعن النسوان). دراسة اللعن عند دكتور جي هي دراسة سلوكيات البشر وحالتهم العاطفية التي يصدر عنها اللعن الذي هو في صميمه متشابك مع، وهو حتماً نتاج ل ، عوامل ثلاث أنظمة مستقلة: سيكولوجية وعصبية وثقافية.
وثقافة اللعن هي ثقافة المتعالين، أولئك الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنهم في مقام ليس فقط اجتماعي أو علمي أعلى، بل وخلْقي أيضاً، ولاعنُ النساء لا يحمل ذرة احترام للنساء، لذلك فهو يطلق لسانه من منزلة التفوق، أي يطلق اللعنة من موقع أفضليته وقوامته على من هن دونه على سلم الخليقة. اللعنة إخراج من نعيم إلى جحيم لأنها في أصلها عقوبة على خطيئة، فما الذي جنته النسوان حتى يرسلهن ذاك الرجل إلى جهنم؟
إن جنايتهن هي خروج مزدوج أحدهما من إقامة جبرية خلف أسوار ضربها من حولهن ذات الرجل، وثانيهما خروج إلى مضمار واسع اختصّ نفسه به وحرّمه عليهن، لذلك استحقت النسوان اللعن علّه يحقق عودتهن إلى حيث لا يملأن الدنيا ولا يشغلن ناسها الأصليين، ألا وهم الرجال الأحق في نظره بالحياة ووهجها واتقادها. هذا الخروج الذي يقتضي الإخراج يقلق الرجل وينزع عنه لباس الأمان الذي ارتداه على مر العصور وقد وقاه شر النسوان. أقول شر، ذلك أن النسوان في اعتقاد ذلك الرجل هنّ لعنة، وعندها يصبح لعنها تكرارا ممجوجاً، أو هو تكرار يفيد التأكيد ثم التأكيد على استحقاق النسوان اللعن والطرد والإقصاء.
لكن ثقافة اللعن في حقيقتها هي ثقافة العجز المهزوم، فاللعن ينطوي على خوف وتوجس شديدين. عندما يرى الرجل اللّعان للنسوان أنهن خرجن عن دائرة تحكمّه فيهن وتفوقه المزعوم عليهن، يضيق صدره ويتجهم لأنه يقرأ في ذلك الخروج إدراك النسوان ووعيهن بحقيقة الدوائر والحدود. هو يعرف في قرارة نفسه أنهن ما عاد يرضيهن أن يكنّ (شياطيناً خلقن لنا)، ولا عاد يدغدغ غرورهن أن يكنّ (رياحيناً خلقن لنا). هؤلاء النسوان الملعونات على لسان ذلك الرجل المتذمر يؤمنّ إيماناً عميقاً أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقهن للرجل من أصله، بل خلقهن لما خلق الرجل له، خلقهن الله لعبادته هو فقط.
عندما تضع النسوان أقدامهن على أطراف ساحات تملّكها ذلك الرجل بوضع اليد وعضلات الذراع، يرتبك ويختل توازنه، ثم حين يدرك أنهن قادرات ومؤهلات بعد أن كان يظن هو خاطئاً أن الله سبحانه وتعالى حباه هو بالقدرات والمواهب دونهن، حينها لا يضيق صدره فقط، بل وتضيق حيلته، ثم تضيق به السبل. أمام هذا المأزق الخانق يلجأ هذا الرجل الذي ضعف رصيده العلمي والأخلاقي إلى اللعن كوسيلة تنفيس عما تعبأ به صدره من حنق، ويرتفع صوته رافضاً وطارداً: (الله يلعن النسوان). حينها تكبح كل من النسوان غضبها وتترفع عن اللعن المماثل حين تتذكر كل الأحاديث النبوية الشريفة التي تُنفر من اللعن وتحرمه على المسلم، تتذكر قول الرسول الكريم متمم مكارم الأخلاق: (ولعن المؤمن كقتله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه، ولا بالنار).
وربما يمتنع النسوان عن لعن من يلعنهن، لكنهن لا يفتأن يتذكرن قول تلك المرأة التي قارعت ذات مرة رجلاَ حجة بحجة حتى أفحمته، عندها احمر وجه الرجل غيظا وقال ساخطاً:
(ألا لعنة الله على نساء الأرض أجمعين). فأجابته المرأة بأدب وهدوء عجيبين: (وللذكر مثل حظ الأنثيين)!!!
جده
lamiabaeshen@gmail.com