(1)
خارج السرب
سماءٌ صافية بزرقةٍ ساحرة، ونسماتُ نهاية بردٍ ممل منعشة تغري بالجلوس خارج تلك الغرف الميتة.
جلستُ في فناء بيتنا مستمتعاً بهذا الجو، متأملاً بهدوء ذلك السرب من الطيور الميمم ناحية الجنوب. خرج أحد أفراد الفريق، لم يواصل معه المسير، حط قريباً مني فوق السور. حط بهدوء وكأنه لا يراني، غرّد، تباهى، فرد جناحيه. كان بالتأكيد يستمعُ لأصواتٍ تناديه بالعودة، ولكنه تجاهل كل النداءات ولم يبال بها.
ورغم أنه كان وحيداً خارج السرب، إلا أن صوته كان أجمل من أصوات تلك الطيور مجتمعة، وكان شكله أبدع، وحسنه أبهى. أغراني صوته وكأن لا طائر غيره.
(2)
رسالة قصيرة
بعد أن اتفقا على أن يمضي كل منهما بعيداً عن الآخر، رجعت لبيتها وتوجهت مباشرة نحو غرفتها المليئة بالأسرار، جلست بهدوء على كرسيها الهزاز، أغمضت عينيها، أسلمت مسامعها لأغنية من أحد أشرطة التسجيل.. جاءها الصوت بعد دقائق وكأنها تسمع هذه الكلمات للمرة الأولى :
- (لا تردين الرسايل.. وش أسوي بالورق.... وكل معنى للمحبة ذاب فيها واحترق)
صوبت عينيها نحو ذلك الصوت فجأة ! ابتسمت ثم عادت لسابق استرخائها، وتذكرت بأنهما لم يتبادلا رسالة خطية واحدة منذ أن عشقته سوى رسائل الهاتف المحمول.. كانت تتمنى لو أنه أرسل لها رسالة واحدة مكتوبة بخط يده، ولكن يبدو أن زمن الرسائل المعطرة والمذيلة بقبلة قد ذهب إلى غير رجعة.
(3)
زفّة
ليلة غد موعد زفافها، لكَم انتظرت هذه الليلة طويلاً. ثلاثون عاماً قاربت أن تنقضي، وها هي أمنيتها، وإن كانت متأخرةً بعض الشيء، ولكنها على وشك أن تتحقق.
لبست فستانها الأبيض للمرة الألف، وقفت أمام المرآة تبتسم، تتأمل، تفكرّ. أخذت تسترجع ذكريات سنواتها الفائتة، وكيف خُطبت عدة مرات ولكن لم توفق. وكيف سألت نفسها كثيراً: لم تأخر نصيبها وكل قريباتها الأصغر منها سناً تزوجنَ وأنجبن، وكيف كانت تقنع نفسها، أو تحاول، بأن كل شيء قسمة ونصيب.
- اذهبوا بها لشيخٍ يقرأ عليها!
- خذوا من آثار الأقدام التي في يبتكم وضعوه في ماء ولتغتسل به!
- اجعلوها تخرج كغيرها من البنات لتشاهدها النسوة علّ أحدهن تخطبها أو تذكرها لأحد!
كل هذا وأكثر سمعته بعد أن تأخر القطار عن الوصول لمحطتها.
دخلت عليها أمها:
- لقد تأخر الوقتُ كثيراً يا ابنتي، لا بد أن تنامي وترتاحي، لتظهري في الغد بأبهى صورة.
- حسناً يا أمي.
- تصبحين على خير.
تمددت على السرير بفستان زفافها، أغمضت عينيها رغماً عنها.
رأته وهو يمسك يدها وهما جالسان على (الكوشة) والأعين تتمعنهما، شعرت بحبور شديد وأمالت نظرها مبتسمة نحو والدتها التي تقف إلى جانبها فرأتها وهي تغالب الدموع وتضغط على كتفها بشدة، وصوت الزفّة، التي اختارتها هي، يعلو ويرتفع وترتفع هي معه للأعلى وما زال يعلو أكثر فأكثر. حاولوا إيقاظها ولكن صوت الزفّة غلب أصواتهم فلم تسمعهم.
قبل حلول المساء اكتمل الزفاف بعد أن أودعوها القبر.