يعدّ الدكتور محمد الحضيف واحداً من الأسماء الثقافية المعاصرة التي فرضت حضورها في وسطنا المحلّي، وذلك عبر نقاشاته وحواراته وكتاباته المختلفة. ويهمّني هنا الوقوف عند إحدى كتاباته السردية التي سخّرها للتعبير عن إحدى القضايا المحلية الملتهِبة، وهي روايته (نقطة تفتيش).
فهذه الرواية الصادرة في 1427هـ في 210 صفحات تقريباً، تتحدّث عن خلفيات الأحداث الإرهابية التي شهدتها المملكة خلال السنوات القريبة الماضية، وتحاول أن تضع يدها على مسبّبات صناعة الإرهاب في مجتمعنا السعودي، وهو ما يوضّحه المؤلف في صفحة الغلاف الأخيرة، بقوله: (أحداث العنف والإرهاب مزّقت سكون الرياض... (و) (نقطة تفتيش) فعل اجترحه مثقف... أراد أن يجيب عن كل الأسئلة لتعود للمدينة سكينتها).
تحاول الرواية مقاربة موضوعها بحكاية قصة الشاب غير المتديّن المقصّر كثيراً في صلاته (أحمد) الذي يتورّط في دخول دهاليز الإرهاب دون أن يخطّط للأمر، ثم يموت قتيلاً بسبب ذلك. وتتلخّص أحداث الرواية في أن بطلها (أحمد) يسافر بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في أعقاب 11 سبتمبر للبحث عن شقيقه المجاهد (عبدالله) المنضمّ لصفوف طالبان. وبعد رحلة شاقة ومضنية بين المدن والمخيمات الأفغانية يكتشف (أحمد) استشهاد أخيه فيقرّر العودة للسعودية. وفي طريق عودته إلى السعودية يلتقي شباباً سعوديين في مطار باكستان، ويتعرّف عليهم ويتبادل معهم العناوين والأرقام، وبعدما يعود يحاول الاتصال ببعضهم، ثم يتفاجأ بإعلان أسمائهم مع المطلوبين أمنياً. ويحذّره من لم يُقبَض عليه منهم من المكوث في البيت، لأن الدور سيكون عليه. وفعلاً يستجيب ويهرب بعد أن سألت عنه الأجهزة الأمنية أكثر من مرّة.
وينضمّ أحمد لصفوف التنظيم الإرهابي ليكونوا له الملاذ الآمن دون أن يوافقهم في أفكارهم أو يقتنع بعملياتهم المسلّحة. وبعد مدةٍ تمرض أمه ألماً وحزناً عليه، فيقرّر أن يلتقيها في بيت خالته بعيداً عن الخطر، ولكن أعين الأجهزة الأمنية تعلم بذلك. وفي طريقه إلى بيت خالته بصحبة عدد من رفاقه لحمايته، يجدون أمامهم (نقطة تفتيش) تعترِض طريقهم، فيقوم زملاؤه بفتح النار على الشرطة التي دافعت عن نفسها فردّت بالمثل، فيخرّ البطل (أحمد) قتيلاً صريعاً برصاص الشرطة. ذلك هو باختصار خيط الرواية الرئيس، وهي مليئة بالأحداث الفرعية التي تتقاطع مع هذا الخط الحدثي العام.
ويكمن تميّز الرواية في قدرتها على تصوير الإرهاب من الداخل، الداخل النفسي والفكري، والداخل الحركي التنظيمي. وهو ما يظهر عبر القدرة التصويرية العالية التي تجعلك تعايش الحدث لحظة بلحظة، وعبر الرسم التفصيلي للأماكن والتحرّكات والتصرّفات التي تمرّ بها شخوص وأحداث الرواية.
ويكشف النصُ الروائي عن قدرة ممتازة على صناعة المواقف والمفارقات الدرامية، بحيث يتأزّم السرد وتتعقّد الأحداث، ويختلط الفرح بالبكاء، بشكلٍ يرفع مستوى التحفّز والترقّب والمتابعة عند القارئ، ويعمّق عنده الإحساس بالفاجعة. ولعلّ ذلك يظهر مثلاً عند ذهاب أحمد ليبحث عن أخيه في مخيمات المجاهدين الأفغان الذين اشتبهوا بكونه جاسوساً، وكاد يفقد حياته لولا رؤيته أحد أصدقاء أخيه في آخر لحظة. ويظهر أيضا في أن أحد رجال الشرطة الذين قُتِلوا في (نقطة التفتيش) هو ابن جيرانهم الذي هنّأوه قبل أيامٍ بتخرّجه من كلية الشرطة.
كما يمتاز النص أيضا باللغة المفعمة بالإحساس والشعور، فبرغم أن لغة النص تتوسّط بين التكثيف البلاغي واللغة التوصيلية إلا أنها قادرة على حقن القارئ بإحساسات الشخوص ومشاعرهم وتوتّراتهم وأفراحهم وأتراحهم. وهي لغة يمتاز بها قصّ د.الحضيف في روايته الأخرى أيضا (موضي حلم يموت تحت الأقدام).
وتجري أحداث الرواية في مكانين مختلفين: الرياض وأفغانستان. وهو ما يجعل الكاتب عندما ينتقل إلى سرد رحلة البطل إلى أفغانستان ينشغل عن قضية الرواية في وصف الأجواء التي نشأ فيها فكر الإرهاب المحلي، إلى موضوع آخر بعيد تماماً، يتمثّل في توثيق أحداث الحرب الأمريكية على أفغانستان. وكان يجب ألا ينشغل السردُ بتفاصيل حربٍ شهدها الجميع، وشاهد الجميع معظم أحداثها. وقد ظهر هذا الانشغال من الكاتب بسرده حكايات مختلفة، مثل معركة (القلعة)، وثورة الأسرى الطالبانيين، وقتلى الحاويات، وتدوينه أسماء قتلى المعارك..إلخ. فكلّ هذا (حشو) لا يفيد الرواية في شيء. ولهذا فالرواية عندما تتحدّث عن الأحداث التي يعيشها ويعايشها البطل (أحمد) تبدو مثيرة مشوّقة، وقادرة على اجتذب القارئ، ولكنها عندما تنشغل بوصف أحداث، وسرد معارك وتفاصيل لا تتّصل بشخصه أو قضيته تفقد الكثير من وهجها، وتضعف قدرتها على الجذب بشكل واضح.
كما أن الرواية انصرفت في أحيانٍ قليلة إلى (الثرثرة) حول بعض القضايا والموضوعات بأسلوبٍ مقاليّ لا يمتّ لفنّ الرواية بصلة ، كما في الحديث عن التحوّلات التي أصابت ثقافة المجتمع السعودي بعد 11 سبتمبر ص(17 - 20)، وكما في تحليله أسباب وجود التطرّف في الفكر الإرهابي ص(24 - 25)، وكما في وصفه تقاطع المصالح الأمريكية مع الحرب الأفغانية على الاتحاد السوفييتي ص(40 - 41)..إلخ. وليست المشكلة هنا أن يطرح الروائي رؤيته حول هذه القضايا، ولكن المشكلة أنه طرحها بصورة غير فنية، وعلى شكل استطرادات وتعليقات لا يتأثر العمل بحذفها، ولا تستفيد أحداث الرواية من وجودها. وهو ما يصل بالكاتب أحياناً إلى لغةٍ شعاراتية حادّة، تدفعه إلى التعريض ببعض المشايخ أو المثقفين المعروفين، أو وصف واقع الصحافة وبعض رموزها بالفساد!!.
وهنا أود أن أؤكّد بأن المؤلف قد انتقد بشكل صريح فكر العنف والإرهاب في الغلاف الخلفي، وانتقد في بعض المواضع طروحات الفكر التكفيري واستهدافهم رجال الأمن، إلا أن نبرة إدانته للتيار الضدّ (الليبراليين والعلمانيين كما يسمّيهم) كانت أعلى وأحدّ بكثير، وبصورةٍ قد تكون شغلت المؤلّف عن إدانة الإرهاب قضية الرواية وموضوعها الرئيس بالحدة والقوة ذاتهما.
قبل أن أختم أرى لزاماً عليّ ذكر الأسباب التي تراها الرواية -حسب فهمي - صانعاً حقيقياً للإرهاب في مجتمعنا السعودي. فالفكر التكفيري الذي رضعه رموز الإرهاب لدينا في الخارج وعودتهم لضخّه هنا ساهم في وجوده لدينا. كما أن الأحداث العصيبة التي تعرّض لها العالم الإسلامي على يد القوات الأمريكية بالعدوان على أفغانستان والعراق، والفظائع التي حدثت خلال هذه الفترة في (أبو غريب) ونحوها، ساهمت في هيجان العواطف الدينية واستعدادها لفعل أي شيء تظنه دفاعاً عن كرامة الأمة بغض النظر عن خطئه أو صوابه. يُضاف إلى ذلك الواقع الداخلي السعودي -حسب وجهة نظر الرواية - الذي تعبث فيه بعض الأقلام الصحفية في استفزاز الشعور الديني والتطاول على بعض الثوابت والرموز الإسلامية. كل هذه الأشياء - مع عدم ثقة المنتسبين للفكر الإرهابي بالأجهزة الأمنية الرسمية وخوفهم من الأذى والتعذيب - ساهمت في حصول المصادمات المسلّحة بين الإرهابيين والأجهزة الأمنية الرسمية.
إن د - الحضيف كاتب ملتزِم سعى إلى فرض رؤيته الإسلامية على نتاجه الإبداعي، وتطويع إبداعه لخدمة رؤيته الإسلامية. وبما أن الالتزام قد يغدو سيفاً مصلتاً يقتل روح الإبداع ويخنق وهج الفن أحياناً، إلا أن د - الحضيف استطاع المزج بين القيمية والأدبية بشكل جيد في كثير من المواضع في روايته، ولكنه في مواضع قليلة وقع في فخّ المقالات الشعاراتية والتوثيق المتعاطف مع أزمة أفغانستان خلال الحرب الأمريكية، وهو انصياع واضح منه لحسه الإسلامي الملتزِم ولكنه بكل أسف مثّل خروجاً بالنص عن الحس الفني الروائي.
في الختام أودّ أن أشيد بإمكانات د. الحضيف الروائية، وبامتلاكه ناصية الموهبة السردية، وأثق بأنه لو اشتغل على تطوير أدواته فنياً، ولو ركّز جهده على التعبير من خلال الفن وأدواته فسيكون واحداً من أسماء الصفّ الأول في الرواية السعودية.
- بريدة