نحن نظن دائماً أن المثقف لديه من السلطة النافذة والقوية داخل وطنه ومجتمعه ما يكفي لممارسة دوره الفاعل في خدمتهما؛ في حين ننسى أو نتناسى تلكم الأدوار الخفية الأخرى التي تمارس ضدّه؛ وهي التي ربما تكون سبباً ليس في إفشاله وحسب وإنما أيضاً في جنونه أو انتحاره أو اعتزاله، ويمكننا القول إن أخطر هذه الأدوار تتمحور في مضايقة الأسرة ومضايقة الأصدقاء ومضايقة المجتمع، أي ثلاث مضايقات، فأما مضايقة الأسرة -وأعني تحديداً الأسرة التي لا سلطة له عليها- فتتمثل في سلطة الأب؛ ونحن نعلم بأن الأب يجب أن يكون له تأثير إيجابي حقيقي فاعل؛ إلا أنه في بعض الأحيان يكون له أثر سلبي سيئ؛ وذلك عندما تقوم الأسرة بممارسة الدور الدكتاتوري الاستبدادي الذي يستلب من الابن المثقف خصوصيته وحريته، وذلك عبر منعه من ممارسة ما يحبّ من الهوايات أو التخصصات، وقد عانى من هذا عدد من المثقفين والمبدعين، ومن هؤلاء الروائي العالمي (باولوكاويلو) حيث أدخل مستشفى المجانين في عام 1965م و1966م و1967م، والسبب هو أنه كان يريد أن يكون كاتباً؛ بينما أسرته كانت ترفض ذلك طالبة منه بأن يكمِّل دراسته في إحدى التخصصات العلمية، ولأن كاويلو كان عنيداً فقد توهمت أسرته بأنه أصيب بالجنون، حيث أودعته في إحدى المصحات العقلية، إلا أن كاويلو صبر، وقهر الظروف، وتغلب على الصعاب، وحقق بعد ذلك ما كان يطمح إليه.
هذا فيما يخص مضايقة الأسرة وأما بخصوص مضايقة الأصدقاء، فإن ذلك يحدث عندما يقوم شخصٌ ما بممارسة ضغوط نفسية ضدّ صديقه المبدع أو المثقف، ونجد هذا جلياً في حياة (فان جوخ) الرسام الهولندي العالمي؛ حيث يقال إن سبب جنونه هو أن صديقه (بول جوجان) كان يفتعل النقاشات الحادة ضده ويثير الخلافات أيضاً، ما أدى به إلى مزيد من الاضطرابات العصبية، ومن ثم تطورت هذه الاضطرابات حتى تحولت إلى الجنون التام، وأظن بأن جنون الشاعر السعودي الكبير حمد الحجي كانت لهذا السبب، وهو ما ألمح إليه محمد بن سعد بن حسين ذات مرة في إحدى كتبه.
وأما مضايقة المجتمع فهي تعد الأخطر والأكثر فتكاً بين العلماء والمبدعين، ولا يوجد أحدٌ من العلماء إلا وقد عانى من ويلاتها، إذ إن المجتمع كيان واحد متماسك في الغالب، وهو يؤمن بالعاطفة أكثر من إيمانه بالعقل، ويؤمن أيضاً بالجماهير أكثر من إيمانه بالحقيقة، ولا يمكنني هنا أن أستشهد بأحد؛ إذ إن أغلب العلماء والأدباء قد ذاقوا مرارة ذلك؛ إلا أنني أفضل بأن أستشهد ببيتين جميلين ومؤثرين - سأختم بهما - وهما يجسدان عمق المعاناة وصلابة التحدي، وهما لأبي الحسن البيهقي؛ إذ يقول فيهما شاكياً:
لئنْ عُدّ عِلمُ المرءِ جرماً لديكمُ
فذلكَ جرمٌ لستُ منهُ أتوبُ
كفى حزناً أنّي مقيمٌ ببلدةٍ
بها صاحبُ العلمِ الرصينِ غريبُ
بريدة