ماذا أستطيع أن أقول عن عالم شارك في أغلب علوم عصره كاتبا وناقدا ومفندا ومرجحا ومحققا ومتفلسفا وشاعرا وتراثيا وحداثيا، تنقل بين وردزورث في كتابه (هكذا علمني ووردزورث) إلى أم الوليد في الفن والغناء إلى (ديوان الشعر العامي بلغة أهل نجد) بأجزائه الخمسة إلى شرح صحيح مسلم وإلى تفسيره القرآن ثم إلى تحقيقاته لابن حزم.. إن رجلا مثل ابن عقيل لا تكتب عنه كتابات عاجلة مختصرة تودع في صفحة من صفحات جريدة (الجزيرة) تحت مسمى (ملف عن أبي عبدالرحمن)، إن أقل حقه علينا أن نقيم عنه ندوة علمية تنتظم كل أعماله المتنوعة، بيد أنه لا تثريب!!
ولأني لا أستطيع أن أوفيه حقه في هذه العجالة فسأكتفي بحادثة علمية واحدة لأبي عبدالرحمن وهي: عقد مؤتمر الأدباء السعوديين الأول في رحاب أم القرى سنة 1394هـ ودعي إليه عدد كبير من الأدباء والأكاديميين والمفكرين، وكان أبو عبدالرحمن أحد هؤلاء، وقبل مجيئه كان قد صاحبته ضجة إعلامية كبيرة، إذ هو ذلك الشاب الذي بدأ يملأ الدنيا ويشغل الناس بكتاباته وبتناقضاته الفكرية (وردزورث وأم الوليد)، وكان كهول الأدباء في الحجاز آنذاك يتوجسون خيفة من أبي عبدالرحمن بفكره الجديد وطرحه الجديد وعنفوانه الجديد، ويحقُّ لهم أن يتوجسوا من شاب متوقد طلعة متعدد المشارب والمسارب، فهم قوم في أغلبهم تقليديون أو تراثيون كتابا كانوا أو مؤلفين أو علماء أو شعراء ودعاة، وكنت قد لمست ذلك منهم -وأنا ضمن اللجنة المنظمة- لكني -يعلم الله- ما شعرت بما شعروا به، بل كنت أطمئنهم وأهدئ من روعهم وأستعد لمقارعة أبي عبدالرحمن أمامهم وأمام تلاميذي الذين كانوا يحضرون تلك الندوات ويحضرون فيها، فقد انتقل قسم اللغة العربية كاملاً إلى حدائق الزاهد حيث تعقد ندوات ذلك المؤتمر الأول للأدباء السعوديين، لم يسبق لي أن رأيت أبا عبدالرحمن رأي العين كما لم يسبق لي أن احتككت به، وإنما أرى صوره التي شغلت الصحف آنذاك وأقرأ له، وأعجب ببعض وأتوقف عن بعض.
حضر أبو عبدالرحمن ومعه نخبة من الشباب ترى رأيه وتحف به كأنها تحفُّ بشيخها وملهمها، وكلهم كأنهم أتراب أو زملاء لولا تقديمهم تقديم المبجل لأبي عبدالرحمن (أبو عبدالرحمن وعبدالله الماجد ومحمد الشدي) وكان هؤلاء الشباب الثلاثة قد ملأوا صفحات جرائد المنطقة الوسطى بكتاباتهم وأطروحاتهم وصورهم، ويشهد الله أنهم كان لهم هيبة وجمال، وصادف أن هؤلاء الثلاثة الأتراب كانوا على قدر من الوسامة والوضاءة والنظافة والشباب، مما زاد هيبتهم في نفوس بعض المؤتمرين، وبدأ المؤتمر وجاء دور شيخهم أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري يصحبه جوٌّ من التخوف والترقب لما سيقوله هذا الشاب المتفلسف في تلك الليلة أو الصباح، وكان موضوعه المعلن يدور حول العروض وتجديده وهو موضوع مخيف آنذاك لشعراء لا يعرفون ولا يعترفون إلا بالشعر العمودي وإلا بالبحور الخليلية المعروفة.
كان أبو عبدالرحمن شديد الثقة بنفسه إلى درجة الغرور؛ إذ لا يرى فوق نفسه ذلك اليوم في هذا الموضوع فجاء غير مكترث بأحد، يلقي بحثه ارتجالاً دون تحضير كافٍ له، وكان بعض الحاضرين يتصيدون أخطاءه -وكنت واحداً من هؤلاء- فخان ارتجاله بعض الشيء، الأمر الذي نفذنا من خلاله حين علقت عليه بعد أن انتهى وصححت له بعض ما وقع فيه من أخطاء وكنت مشحوناً قبل ذلك لدرجة أني انتشيت بعد ذلك التعليق الذي أثلج صدور الكهول المتخوفين من الأدباء؛ إذ أعقب هذا التعليق شيء من التصفيق الحاد مما جعل أبا عبدالرحمن يستشيط غضباً، فقال لي بعد أن نزل من المنصة ومر بي وهو لا يعرفني: (ماذا تريد مني أيها البدوي) وضرب كتفي بكتفه بقوة، فلما جاء الفصل بين المحاضرات حرصت على أن أقابله وأعرفه على نفسي وأخفف عنه فقلت له: (لست بدوياً أنا من جماعتك أهل الشعراء وصديق لأبناء عمك في الشعراء).
انتهى المؤتمر بتوصياته وتفرق الجمع وكنت محتاراً في ردة فعل أبي عبدالرحمن تجاه ملاينتي له، وذهبت السنون (ست عشرة سنة) وجئت إلى الرياض وقابلت أبا عبدالرحمن في بيته وخارج بيته وعُرِض عليه طبع كتاب (رسائل ابن كالباشا) بتحقيقي ضمن مطبوعات النادي الذي كان يرأسه آنذاك أو كان له قوة عليه فأقر طباعته دون أن يؤثر ذلك الموقف عليه شيئاً، بيد أني فوجئت بعد ستة عشر عاماً بأبي عبدالرحمن - وهو يحاضر في النادي الأدبي بالرياض عن موضوع تاريخي أغناه في المنقول والمعقول -بعد أن علَّقت عليه- يستغل الفرصة ويصرح أمام الجمهور أنه لم ينس ذلك الموقف الذي حصل مني في مؤتمر الأدباء الأول في مكة المكرمة وأنه سينتصف مني هذه الليلة وكان له ما أراد، ثم مرت سنون تنقت الأنفس وأثمر هذا النقاء أن اختارني -جزاه الله خيراً- عضواً في هيئة المجلة التي يرأسها (الدرعية). فلله درك يا أبا عبدالرحمن ما أروعك وما أعلمك وما أكرمك؟!