عني الشيخ أبو عبدالرحمن من ضمن اهتماماته العلمية بجوانب الرسم الإملائي، محاولا أن يخرج برأي يطور فيه الرسم، ويسهل قواعده، وقد نشر آراءه في الرسم الإملائي ضمن مجموعة مقالات في صحيفة الجزيرة والمجلة العربية ما بين عامي 1421هـ و1422هـ، ولعل ما يجعل اجتهاد الشيخ في الرسم الإملائي أكثر إثارة للاهتمام والبحث، هو أخذه في كتابته لمقالاته إبان دعوته بما يدعو إليه من إصلاحيات.
حاكم الشيخ الرسم الإملائي محاكمة عقلية، حين طالبه بالمطابقة للمنطوق، وحين طالبه بصورة واحدة للألف المتطرفة، أو بصورة واحدة للألف المهموزة، لكنه في خضم هذا الاحتفاء العقلي بالمطابقة فات عليه أن الرسم الإملائي عند جميع الأمم، وليس العرب وحدهم، ليس نتاج العقل وحده، وليس نتاج القياس المنطقي وحده، بل هو نتاج ذلك كله، مع إفرازات تاريخ النظام الكتابي في اللغة التي يكتب بها، وكذلك التطور الصوتي واللغوي للغة، وتجذر الرسم الإملائي في عادات الناس الكتابية وتراثهم المكتوب والمقروء، لأنه -كما يقول العالم اللغوي فندريس لنسا-: على عكس ما يتصور كثير من الناس، نكتب كما نتكلم، بل إننا نكتب (أو نحاول أن نكتب) كما يكتب غيرنا، ولهذا فإن مقولة الشيخ أبي عبدالرحمن عن هيمنة المألوف من طرائق الكتابة إنها (قاعدة خرقاء ترسخ الجهل)، أمر غير مسلم به، فقد اعترف الباحث الجليل نفسه بانسياقه إلى الإلف والاعتياد في سياق آخر حين قال: (إن العسر تلخص في صعوبة الخروج عن المألوف، وهذا أمر أعانيه شخصياً، إذ يكثر الشطب والتحويق في مسوداتي لأنه يغلبني الإلف، فأكتب حتى وعلى ومتى، ثم أشطب وأكتب حتا وعلا ومتا.. فإذا كان مثل هذه المعاناة يتكبدها باحث روض نفسه على الجد والبحث، فإن الآخرين أشد معاناة في ذلك، وليس لديهم القناعة بقبول مثل هذه التغيرات، كما أنه ليس لديهم الاستعداد لمعاناة مخالفة ما اعتادوا عليه، لكن هل استطاع الشيخ أن يستقيم له منهجه بدون اضطراب؟
يرى الشيخ كتابة الهمزة (الألف المهموزة) على الألف في حالة الفتح أو الضم، وتحتها في حالة الكسر، وهذه هي القاعدة العامة للهمزة لديه، لكنها لا تسلم من الاستثناءات المبررة بالضرورة البرهانية -كما يراها-، فقد عدل عن صورة الألف المهموزة حسب منهجه، وأبقى على صورة الهمزة المكسورة المرسومة على نبرة (ياء غير منقوطة) كما درج عليه في الرسم الإملائي المعتاد، فكتب: الشدائد، مبادئه.
وكتب الهمزة المتوسطة المفتوحة، المكسور ما قبلها همزة على ألف فكتب: فئويا (فأويا)، وفوجئت (فوجأت)، لكنه صور هذه الهمزة إذا كان ما بعدها مد بالألف، على صورة مدة على الألف، فكتب كلمة الفئات (الفآت)، وفي هذا مخالفة للرسم الإملائي المعتاد، وفي الوقت نفسه مخالفة لنهجه في الكتابة، إذاً القياس في كتابتها لديه (فأات)، كما كتب كلمة رئاسة (رآسة) وكان القياس حسب منهجه كتابتها (رأاسة)، وكتب كلمة وئام (وآم)، وكان القياس حسب منهج رسمها (وأام)، وكتب الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها، وما بعدها مد بالألف، علامة مد على الألف، فكتب المؤاخذة (المآخذة) وهو بهذا يخالف الرسم القياسي، وفي الوقت نفسه يخالف أسلوبه في الرسم، إذ القياس لديه في كتابتها (مأاخذة)، وكتب أيضا مؤخذات (مآخذات) وكان القياس لديه (مأاخذات)، كما أنه قد خالف الرسم القياسي في ذلك، وكتب الهمزة المتطرفة همزة على ألف في حالة كونها محركة بالفتح أو بالضم، وبهمزة تحت الألف في حالة كونها محركة بالكسر، أي أنه قد اعتمد في كتابة الهمزة المتطرفة على حركتها فحسب، فكتب النساء (النساأ)، اللجوء (اللجوأ)، بشيء، إلى قارئ (قارإ)، ومما يلحظ هنا أنه لم يعامل الهمزة المكسورة المتطرفة، معاملة الهمزة المكسورة المتوسطة، ففي حين كتب الهمزة المتوسطة المكسورة همزة (قطعة) على نبرة، كتب المتطرفة قطعة تحت الألف.
وقد دعا الشيخ إلى كتابة الألف المتطرفة ألفا على أصلها، فكتب: (الفتا)، ومستشفى (مستشفا) .. كما دعا إلى إعادة ما حذف من حروف الكلمة، وحذف ما زيد فيها عن نطقها، وعدم الالتزام بما اشتهر من رسم لها، إلا أن ما دعا إليه الشيخ لم يسلم له عند التطبيق.
يبدو أن الشيخ قد كتب بأسلوبه في البداية بدون إعداد نظري مسبق، لهذا نجده في المقالات الأولى التي بدأ في الكتابة فيها بأسلوبه في الرسم (الأعداد 279.278.277 من المجلة العربية) لم يكتب بما يخالف الرسم الإملائي المعتاد إلا بكلمة واحدة في كل عدد فكتب كلمة يتساءل (يتساأل) في العدد 277، وكتب كلمة الراءين (الراأين) في العدد 278، ونجده في مقالته الثالثة التي رسم فيها الهمزة المتوسطة المفتوحة بعد ألف همزة على ألف فكتب فيها قراءاته (قراأاته) يكتب كلمة (القراءة) بالرسم المعتاد، على الرغم من أنها جاءت على الشروط نفسها، كما نجده في المقالات الأولى هذه لا يغير من رسم الألف المتطرفة، وكذلك لا يغير من رسم الألفاظ المتحجرة كتابيا، وظل عدم التزام الشيخ بمنهجه في الرسم يلازمه حتى في أغزر مقالاته بصور الرسم التي تمثل منهجه.
ومن الملحوظ في مقالات الشيخ التي ظهر فيها منهجه الكتابي، أنه لا يلتزم بطريقة واحدة، نجده يكتب الكلمة الواحدة في المقالة الواحدة بأسلوبين، كما في كلمة أعباء، حيث كتبها في عنوان مقالة (أعباء الدار والجار)، على طريقته (أعباأ)، وكتبها في المقالة نفسه (أعباء) حسب الرسم المعتاد، وكذلك كتب (إلى) مرة (إلا) ومرة (إلى)، وكتب اسم الإشارة (هذا) مرة (هاذا) ومرة بالرسم المعتاد، والأمثلة على ذلك من مقالاته أكثر من أن تحصى.
وقد صدر الشيخ أبو عبدالرحمن في دعوته عن مطلب تربوي وحياتي ملح يتمثل في الحاجة إلى التسهيل في الرسم الإملائي، فهل حقق الشيخ هدفه من خلال منهجه وما كتبه حوله موضحا ومدافعا عنه؟
من خلال استعراضنا لمنهج الشيخ الداعي إلى كتابة الهمزة قطعة على ألف، وهو ما أسماه (الرجوع إلى الأصل، وهو إعطاء الحرف صورته الكاملة)، نراه قد قبل صورا أخرى لها، فأصبح لها صورة الألف التي تعلوها أو تسفلها القطعة (أ،إ) والألف المحلاة بعلامة المد (آ)، والياء التي تأتي تكأة للقطعة (ئ).
ولو بقي الشيخ على مطلبه بتمثيل الهمزة برمز واحد، لكان مطلبا مقنعا بجدوى منهجه في التسهيل.
وما يلحظ من أقوال الشيخ في بيان منهجه أنه قد قبل بالاستثناءات وعلقها بمسوغات ومرجحات، وأخذ بكراهية توالي الأمثال، وإن كان قد رفض أن تكون مسوغا مقبولا لوحدها، كما جعل وصل الحروف مسوغا آخر تغير فيه صور الكتابة، ويعدل عن صورة الحرف إلى صورة أخرى، وهو ما شنع به على الكتابة العربية، وقبل بتعدد وجهات النظر في كتابة الحالة الإملائية الواحدة، وهو أمر مشتت للناشئة والعامة، وقبل بمقولة أمن اللبس، وهو باب واسع إذا قبل به، فإنه يكاد يكون في كل كلمة لم تضبط بالشكل.
إضافة إلى هذا كله، أخذ بأدوات المنطق المبرر بالعلل، وتقديم الصور الإملائية بين أدلة التصحيح، والانتقاء بينها من خلال أدلة الترجيح! فهل هذه قواعد يحتملها الدرس الإملائي؟ فإذا كان الرسم القياسي قائما على بعض القواعد الإملائية، فإنها لن تكون شيئا بالنسبة لمثل تلك الغابة من الاستدلالات والاستثناءات التي هي أبعد ما تكون عن الدرس الإملائي والتربوي، وأبعد ما تكون عن التيسير الذي يطمح له الشيخ، وهي في الوقت نفسه أغرب بكثير من القواعد المعتادة عند الطلاب، وهي التي دعا إلى تركها.
وبعد، فأعتقد أن الشيخ أبا عبدالرحمن بن عقيل قد عالج الرسم الإملائي بأدوات المنطقة وهي أدوات فوق أهداف الرسم الإملائي، وتقصر عن طبيعته فالمنطق بجديته وصرامته لا يستطيع التعامل مع الرسم الإملائي بما فيه من تجاوزات للقياس المنطقي.