إذا صح القول: إن الكلام، وبخاصة الكلام الشعري، عبارة عن (ممارسة كيانية)، أو بمثابة(تأسيس للوجود باللغة)؛ فباللغة يظهر الكائن المتكلّم ما هو(ماهيته)، وبها أو من خلالها، يؤسس وجوده ووجود الأشياء التي يتكلّم عنها وبها وفيها-فإنه يصح القول عن الشاعر عبدالعزيز المقالح: إنه استطاع، من بين كثيرٍ من المبدعين، أن يؤسس كينونة الاختلاف والتفرد، ليس فقط على مستوى كونه الشعري أو الإبداعي الخاص، وإنما على مستوى كونه الاجتماعي والثقافي على السواء، فكان بحق هذا الكائن-الإنسان المختلف على كل مستويات كينونته - حيواته الخاصة والعامة، أو لنقل: هذا الكائن الرمز الذي نذر حياته الخاصة والعامة لبناء كينونته الرمزية المفتوحة على قيم الخير والحب والجمال، ما مكنه من فرض تألق حضوره الاجتماعي والثقافي والشعري أو الإبداعي محلياً وعربياً وعالمياً.
غير أن السؤال: كيف تمكن المقالح (الشاعر) من التأسيس لكينونة التفرد والاختلاف تلك في كلامه، أو-على الأقل- خلال فعل تكلمه الشعري الخاص؟
وما دلائل ذلك التفرد والاختلاف؟ وكيف تجسد ذلك في نصوصه الشعرية؟
نود أن نذكّر-بادئ ذي بدء-ببعض الحقائق التي نعتقد أنها تمثل مدخلاً ضرورياً للإجابة عن مثل هذا التساؤل المشروع، فنقول: غير خافٍ أن للكائن البشري عموماً ثلاثة أكوان تتحقق فيها، أو خلالها، كينونته على وجه العموم: كون خارجي، يمثل كونه الاجتماعي العام، أو المشترك، لذلك فهو كون من شأنه أنه يحتوي الكائن المتكلّم ويحوله إلى غيريته. وكون داخلي، يمثل كونه الخاص، غير المشترك الذي به، أو من خلاله، يكون الكائن المتكلّم ذاته الفردية المفردة.
وكون ثالث داخلي + خارجي= كلي؛ به يكون كائناً كلياً مركباً، أي بوصفه كائناً مزدوج الهوية؛ عضوياً، ويرفض العضوية، وظيفياً، ويتمرد على الوظيفية، قطيعياً، ويخرج على القطيع.
فبحضور الكائن المتكلّم إذن في الكون الأول، وتكلمه من أفق حضوره في حضرة كائناته، تتحقق كينونته العامة أو المشتركة؛ وجوده-مع، أو (بالاشتراك) بوصفه هذا الكائن العضوي الوظيفي القطيعي، فهو يفكر كما يفكر باقي أفراد المجموعة التي ينتمي إليها، ويتكلم كما يتكلمون، لذلك
فهو بتكلم من هذا الأفق، يجسد تألق حضوره الاجتماعي. وبحضوره في حضرة الكون الثاني(الداخلي الخاص)، وتكلمه من هذا الكون، أو من خلاله، تتحقق كينونته الخاصة المغلقة، ويجسد تألق حضوره الفردي المفرد أو المنفرد، أي المعزول عن باقي أفراد مجتمعه التخاطبي. وبحضوره في حضرة الكون الثالث الكلي، وتكلمه، من أفق حضوره في حضرة كائناته، تتحقق كينونته الكلية المركبة أو المزدوجة، بوصفه؛ هذا الكائن الكلي المنفتح على عالم الكلام، في كليته وانفتاحه؛ على عالم الواقع (الاجتماعي أو التاريخي) وما يعلي عليه، أو يحقق مسعى تجاوزه، في الوقت نفسه، ومن ثم، فهو يتكلمه بوصفه هذا الكائن غير المكتمل ولكنه، مع ذلك، الباحث-خلال فعل التكلّم الخاص الذي ينشئ، الآن-هنا- عن اكتمال ممكن.
لذلك فنحن ندرك خلال فعل التكلم الذي ينشئ، انطلاقاً من هذا الكون-الأفق، حضور كينونته الكلية المزدوجة، بوصفه، هذا الكائن الممزق الهوية بين: ما هو وما يريد أن يكون، ومن ثم، بوصفه: هذا الكائن الذي ما يبني-خلال فعل تكلمه الخاص-كينونته(الخاصة والعامة) باستمرار.
وعند هذه النقطة يمكنني القول: من تتبعي مسيرة حياة الشاعر عبد العزيز المقالح الإبداعية، ووقوفي على بعض طرائقه في الكتابة الشعرية، أستطيع القول، بكل ثقة: إن ما ميز الكلام الشعري عند المقالح أنه قد جسد، في جملته، حضور المقالح (الشاعر) في حضرة هذا الكون الكلي المركب الذي نطلق عليه (كون الأكوان)، لذلك رأينا من سمات كلامه الشعري المتكلّم من هذا الأفق عموماً:
تكلّم كينونة التفرد والاختلاف، بوصفها جدلاً بين باطن الكائن المتكلّم وظاهره، بين وعيه ولا وعيه، ومن ثم، بين الذات المتكلّمة (في نصوص كلامه الشعري) وموضوع كلامها؛ فبما أن محتوى اللاوعي مكبوت بقوة الحياة اليومية-الثقافة السائدة، فإن نص الكلام الشعري عند المقالح قد جسد نوعاً من الصراع بين الذات-الطبيعة، من جهة، والذات الثقافة-المجتمع، من جهة ثانية، وانطلاقا من أن الكائن المتكلّم-من هذا الأفق-يحدده بعدان أساسيان: بعد القبول، وبعد الرفض؛ بعد القبول الذي يعني التخارج من الذات صوب الخارج، والتكيف مع السائد، وبعد الرفض الذي يعني التداخل في الذات، والتطلع نحو المكبوت في عالم الداخل، الأمر الذي دمغ نصوص الكلام الشعري عند المقالح- بشكل عام-:الكلية والتركيب، وهي سمة ناتجة من تصدع ذاته المتكلمة(كلامَ كتابةٍ طبعاً) في نصوص كلامه الشعري، وتمزقها-عموماً-بين متطلبات الحرية
واستحقاقات الضرورة، ما جعل الكائن الشاعر ينفي نفسه-زمانيا(في عالم القصيدة)بحثاً عن تجاوز ممكن لما يكونه وضعه الكينوني في عالم الواقع- الوطن، وهذا يقتضي أنه لم يقبل ببتر شطر من كينونته(المتكلّمة في نصوص كلامه الشعري)والإبقاء على شطرها الآخر؛ شطر كينونته الداخلي، على حساب شطر كينونته الخارجي، مكونات أناه الفردية الخاصة على حساب مكونات أناه الجمعية العامة، أو العكس، على معنى أن الشاعر لم يقم ببناء شطر كينونته الواعي أو المسؤول على حساب شطر كينونته الآخر؛ غير الواعي وغير المسؤول، أو العكس، بل حاول أن يزاوج بين شطري كينونته المشار إليهما، وأن يجعل كلاً منهما في خدمة الآخر، وناطقاً بلسانه، ما جعله يعيد-خلال فعل النفي الشعري-بناء كينونته الكلية بطريقة كلية متكاملة، تمكن خلالها أن يفكك هذه بشروط تلك، وأن يقيم هذه من أنقاض تلك، وهو ما اقتضي من الكائن المتكلِّم في نصوص كلامه الشعري عموماً إعادة بناء كينونته الكلية الفريدة بطريقة كلية فريدة، يمكن وصفها بأنها ظلت تمثل طريقة الهدم الكلي الشامل؛ سعياً لإعادة البناء الكينوني الكلي الشامل.
وهنا يكون المقالح(الشاعر) قد سعى- خلال فعل الكتابة الشعرية-إلى لمّ شعث كينونته الكلية المركبة، وتحقيق الوحدة بين ضفتي وجوده: الداخلي والخارجي، الخاص والعام، الشعري والاجتماعي، على نحو يؤكد أن عالم القصيدة-عند المقالح-لم يعد مؤلفاً-كما كان قد ذهب رامبو-من
داخل وخارج، أو من خاص وعام، أو من مادة وروح، بل غدا عالماً واحداً، هو بمثابة(وحدة في حضور حي واحد) ما دمغ نصوص خطاب الشاعر بعدد من الظواهر الأخرى، لعل أبرزها-فضلاً عما سبق- :ظاهرة الانفتاح على المتعدد واللانهائي؛ بدءاً بمتعدد مواقع التكلم في نصوص كلامه الشعري، فمتعدد الأصوات المتكلمة، فمتعدد العوالم المتكلّم عنها وفيها، وانتهاءً بتعدد دلالات كلامه الشعري.
ظاهرة الرؤية الكلية المركبة أو المزدوجة لواقع القول وما يعلي عليه، أويحقق تجاوزه، تلك الرؤية التي ما انفكت تحكم منطق بناء نص الشاعر، وتتحكم في مسار نموه.
ظاهرة المفارقة المأساوية التي طغت في مجمل نصوص الشاعر، وجسدت الهوة الشاسعة بين الواقع والمتوقع، أو بين واقع الحال، والمحال الذي ما انفك الشاعر يبحث عنه، ويتطلع إليه خلال فعل الكتابة الشعرية.
طبيعة التجربة الشعرية نفسها التي عبرت عنها أو جسدتها نصوص الشاعر في دواوينه كافة، كونها تجربة معاناة كلية مركبة؛ حاول الشاعر-خلالها- تجاوز الواقع إلى ما فوقه، أو إلى ما يفترض أنه يحقق تجاوزاً له، ما أحال لحظة الكتابة عند الشاعر، لحظة انفتاح كلي على عوالم ضرورية وأخرى ممكنة.
(ظاهرة التحول عن عوالم الخارج، سعياً إلى التبدل في عالم الداخل، أو من خلاله، وهي ظاهرة ما انفكت الذات الكاتبة تحاولها، وتسعى إلى تجسيدها خلال فعلها الكتابي الذي تنجز.
ظاهرة البناء المزدوج لعالم التجربة المزدوج، وقد تجسدت هذه الظاهرة أوضح ما يكون التجسيد، من خلال طغيان بعض الظواهر اللغوية والأسلوبية، مثل: بنية الإضافة، بنية الإسناد النعتى، فبنية الإسناد الاستعاري والكنائي...إلخ.
ولكي نوضح خصوصية حضور بعض هذه الظواهر في نصوص خطاب الشاعر، يمكننا الإشارة-في هذه العجالة- إلى أن نصوص خطاب الشاعر قد جسدت-على سبيل التمثيل لا الحصر- حضور الفعل الكتابي نفسه، لا بوصفه إنتاجاً للكلام، أو مصاحباً له، وإنما بوصفه-حسب دريدا -نقش الاختلاف بين الكلام والكتابة، من جهة، وبوصفه من جهة ثانية، فعلاً ثورياً فاعلاً في الواقع الاجتماعي أو التاريخي، سعياً إلى تغييره، لذلك وجدنا الشاعر يستحضر- خلال فعل التكلّم الكتابي-هذا الفعل الثوري الفاعل في الواقع الاجتماعي أو التاريخي بوصفه فعلاً:أداته السيف، لا القلم؛ السيف بوصفه رمزاً للقوة، وأداة للفعل الثوري المغيّر للواقع وفق شروط التغيير المتعارف عليها، ومن هنا تحددت هوية(سيف الفعل الكتابي(القلم)(في نصوص الكتابة عند الشاعر بكونه:
سيف الثائر علي بن الفضل.
وسيف الكلمات المسنونة.
وسيف الحب.
وسيف الجياع.
وسيف أحلامنا.
فهذه الإضافات، توحي، في مجملها، بأن الكائن الكاتب قد غدا يماهي، خلال تجربته الكتابية، بين (أناه) الكاتبة، و(أناه) الثائرة، أو بين أناه الفاعلة فعلاً كتابياً على الصفحة الفضاء، وأناه (الأخرى) الفاعلة فعلاً اجتماعياً تاريخياً (ثورياً) على صفحة الواقع الاجتماعي أو التاريخي، بشكل عام، ليماهي، من ثم، بين إمكاناته في الكتابة، وإمكانات الثائر في الثورة.