كانت البداية، بعد هزيمة 1967، وكانت مجلة (الآداب) البيروتية لا تزال محافظة على هويتها القومية من ناحية، وعلى تقليد أن يتولى عدد من النقاد نقد إبداعات العدد الماضي في الشعر، وفي القصة... إلخ. وتصادف أن جاء عليّ الدور لأكتب عن نقد قصائد العدد الماضي، وكنت لا أزال منطوياً على رؤية واقعية اشتراكية بمعنى أو آخر. وقد دفعتني هذه الرؤية إلى الوقوف عند قصيدة بعنوان: (رسالة إلى سيف بن ذي يزن)، ورأيت فيها رؤية شعرية تحاول الفرار من الحاضر إلى الماضي، وتبحث عن فرد مخلِّص، كلي القدرات، هو سيف بن ذي يزن الرمز اليمني الساطع في مدى الدلالات الرمزية. ولم أكن أعرف أن كاتب هذه القصيدة أصدر ديواناً من قبل بعنوان: (لا بد من صنعا)، وهو عنوان ذو صلة بقصيدة يمنية ذائعة لشاعر اليمن الرائد: الزبيري. وكنت في ذلك الوقت - ولا أزال - غير مؤمن بفكرة المخلِّص الفردي الذي يبدو كأنه يأتي بالوعد، حاملاً عصا سحرية، تملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً، وتنهض بالعرب من كبوتهم، بعد هزيمتهم الساحقة في العام 1967م. وكانت فكرة المخلِّص الفرد فكرة أثيرة في الرؤية القومية التي تنبني على مركزية الزعيم الذي يصنع تاريخ الأمة على عينيه، مستنفراً طاقاتها الخلاّقة، كأنه روح إيزيس الذي تكتمل أشلاؤه فيعيد الخصب إلى الأرض، مستبدلاً النهوض بالسقوط، والبعث بالذبول، ناقلاً عدوى حضوره الخلاّق إلى كل من حوله، فيغدو كل واحد من الأمة صورة له، أو حالماً على الأقل بعودته التي تأتي بالانتصار ليحل محل الهزيمة. وكان هذا النوع من الرؤية شائعاً في الوعي القومي ولا يزال، وخصوصاً في بنيته الدائرة التي يبدأ كل شيء من مركزها الزعيم ويعود إليه، سواء في حلم النهضة، أو في التطلع إلى منقذ ينجينا من كابوس 1967م.
ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن تسود هذه الرؤية الأعمال الإبداعية للخمسينيات على وجه التحديد، وينتج منها تقمّص الشاعر صفات الزعيم، البطل الملهم، والمخلص القومي الذي يغدو بدوره مركز القصيدة، كما حدث لدى الشعراء التموزيين (أمثال يوسف الخال وجبرا إبراهيم وأدونيس والسياب وغيرهم) من الذين عادوا إلى أساطير البعث الزراعية، حالمين بإمكان تحققها في الواقع، وذلك في الوقت الذي لم يكف شاعر من الشعراء الكبار - في مدى صعود الرؤية القومية - عن اكتساب صفة الزعيم بأكثر من مجلي، وخصوصاً في الدوائر التي رأت في عبدالناصر بديلاً من صلاح الدين. وبعد سقوطه، أخذ كل شاعر يبحث عن بديل يستلهمه من تراثه الثقافي. وكان البديل اليمني جاهزاً في شخصية سيف بن ذي يزن الذي شغل (قناعه) الفني عبد العزيز المقالح في الديوان الذي حمل - فيما بعد - عنوان القصيدة التي نشرتها (الآداب).
ومرت سنوات قليلة، وكنت أيامها عضواً شاباً ينتسب إلى (الجمعية الأدبية المصرية) التي كان من أبرز أعضائها صلاح عبدالصبور وأحمد كمال زكي وعبدالرحمن فهمي وفاروق خورشيد وغيرهم من الأجيال المتعددة. وأذكر أنني ذهبت إلى إحدى أماسي الجمعية، وكان ذلك بعد انتقالها من مقرها القديم بشارع قولة في عابدين إلى مقرها الجديد والأخير القريب من ميدان رمسيس. وعندما رآني صلاح عبدالصبور، وكانت بيني وبينه مودة خاصة، أخذ بيدي وقال لي: هناك شاعر متميز من اليمن يريد التعرف عليك، وقادني من يدي إلى أن وجدت وجهاً يمنياً خالصاً، نحيلاً إلى أبعد حد، لم يخلُ وجهه من آثار الصراع الذي صارعه مع أحداث ثورة اليمن، إلى أن اتخذ قراره بالمجيء إلى القاهرة، والحصول على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه من إحدى جامعاتها. ورسا اختياره على جامعة عين شمس وعلي عز الدين إسماعيل - رحمة الله عليه - مشرفاً، لكنه ظل قريباً من صلاح عبدالصبور الذي أحبه كل الحب، وقرّبه إليه. وهو الذي عرّفني عليه في أحد لقاءات الجمعية الأدبية المصرية التي كان صلاح من أبرز أعضائها، وفي هذا اللقاء قادني صلاح إلى حيث يقف عبدالعزيز المقالح، منزوياً، متوحداً، صامتاً، خجولاً، ربما لحضوره وسط هذه الكوكبة من أعلام الثقافة المصرية الذين رأوا فيه وعداً يمنياً، ينطوي على كثير من الإمكانات. وسلّمت على عبدالعزيز الذي بادلني السلام بحرارة من يعرفني منذ زمن بعيد، ولم يشر قط إلى نقدي السلبي للقصيدة، بل على العكس ظل يتحدث حديثاً طيباً عن قيمة نقدي الذي لم يكن قد بلغ ما أردته له من بعد. ولم ينتهِ اللقاء إلا وقد أصبحنا أصدقاء حميمين. وكان مسكنه قريباً من منزلي في حي الدقي، وأخذنا نتبادل الزيارات، وهو لا يكف عن تعريفي بما لم أكن أعرفه عن الإبداع اليمني الذي تفجّر مع الثورة اليمنية، واندفع إلى آفاق، كانت نقيضاً للوصف السلبي القديم الذي وصف به طه حسين الحياة الأدبية اليمنية ذات يوم. ودفعني عبدالعزيز إلى الكتابة في مجلة (الكلمة) و(اليمن الجديد) التي كانت تصدر تحت رعايته وإلى عدد غير قليل من مبدعي اليمن الذين كانوا يتولون مهمة تعريفنا بغير المعروف منهم على المستوى العربي. وأشهد أن حديثه عن الآخرين كان أكثر من حديثه عن نفسه، فقد كان يريد أن يحفر للأدب اليمني الجديد مكانته في أذهاننا. وشيئاً فشيئاً، عرفنا مكانة هذا الأدب، وتحول الواعدون فيه إلى أصدقاء وأحباء.
وظل عبدالعزيز في القاهرة التي أحبها مثلما أحبته، وأصبح له عدد من الأصدقاء والمعجبين بشعره، وما أكثر زياراته لي في بيتي الذي أصبح بيته. ولم يكن يؤرق زوجتي في كل مرة يزورنا فيها أنها لا تجد ما تقدمه له، فقد كان لا يشرب الشاي ولا القهوة ولا غيرهما من المشروبات التي تعودنا عليها. وكنا إذا زرناه في بيته وجدناه مفتوحاً لكل المثقفين العرب المقيمين في القاهرة، أو المارين عليها، مما كان لا بد لهم أن يعوجوا على منزل عبدالعزيز الذي صار مزاراً عربياً بكل معنى الكلمة. وكل ذلك وهو ماضٍ في أطروحته لدرجة الماجستير ثم درجة الدكتوراه تحت إشراف أستاذه الذي أخلص له الوفاء، عز الدين إسماعيل، ومرت الأيام الساداتية التي تحفظت إزاءها العقول. وتبني السادات نزعة إقليمية بغيضة، وصلت حدّتها إلى طرد عدد غير قليل من اللائذين بمصر التي اتخذوها سكناً. وكان أحبهم إلى قلبي اثنان: أولهما عبدالعزيز المقالح الذي حمله الأمن وأسرته إلى المطار، كي يتخلصوا من حضوره العربي، وتأثيره القومي المتزايد الدوائر، ولم يجد عبدالعزيز مفراً من أن يعود إلى اليمن موطنه الذي جافاه ليعرفه. وأما ثانيهما فهو العزيز غالب هلسا الذي كان يقطن في عمارة تطل على ميدان الدقي، وقد تحوّل مسكنه إلى نقطة التقاء للرافضين شروط الضرورة، الباحثين عن آفاق أوسع من الحرية. ولا أزال أذكر الجلسات الحوارية الحميمة لغالب الذي كان موسوعي الاهتمامات، فضلاً عن اهتمامه الرئيس بكتابة القصة التي أصدر فيها عدداً من الروايات وضعته في الصدارة من كُتّاب الرواية والقصة، على امتداد العالم العربي. ولم يكن غالب هلسا سعيد الحظ مثل عبدالعزيز الذي وجد الترحيب اللائق به في صنعاء التي عاد إلى حضنها، فقد كان فاراً من حكم عليه بالإعدام لإسهامه في تنظيم سري مناهض للحكم، ولذلك ما كان يمكن أن يعود إلى بلده. وبعد وساطات وتدخلات، سمح له الأمن الساداتي بالرحيل إلى بغداد التي ظل فيها إلى أن ضاق ذرعاً بديكتاتورية صدام، ففارقها إلى سورية التي بقي فيها إلى أن قضى نحبه، عليه رحمة الله. وأخيراً، أعاد إليه وطنه الاعتبار، بعد سنوات طويلة من التجاهل، وصدرت أعماله الكاملة من عمان التي اغترب عنها طويلاً، ولم يعد إليها، قط، إلى الآن فيما أعلم.
وأتصور أن الطريقة التي أخرج بها الأمن الساداتي عبدالعزيز من القاهرة قد تركت في نفسه أعمق الأثر، وخلّفت جرحاً عميقاً، لعله لم يندمل إلى اليوم. والدليل أنني وجهت له دعوات كثيرة باسم المجلس الأعلى للثقافة الذي ظللت أمينه العام لأربع عشرة سنة متواصلة، ولكنه لم يستجب إلى دعوة واحدة، كما لو كان قد حسم أمره نهائياً في عدم مغادرة صنعاء إلى غيرها من العواصم العربية، أو الأجنبية. وفي الوقت نفسه، كان قد حدد مدى حركته بصنعاء لا يتركها إلى غيرها إلا فيما ندر من استثناءات، وأذكر أنه صحبني وأدونيس لزيارة مدينة حجة - إن لم تخنِّ الذاكرة - وكانت هذه المرة إحدى الاستثناءات النادرة في حركة عبد العزيز داخل اليمن.
وكما كان يفعل في القاهرة، فعل في صنعاء التي فتحها للمثقفين العرب من كل مكان. وأذكر أنه عندما كان رئيساً لجامعة صنعاء لم يترك واحداً من أصدقائه الدارسين إلا ودعاه إلى جامعة صنعاء، كي يتيح للطلاب والطالبات الاطلاع على آفاق المعرفة الواسعة. ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن تجد الجزائري إلى جانب السوري والمصري واللبناني، وبقية الجنسيات من ذوي الخبرات التي استقدمها إلى جامعة صنعاء ليزيدوها توهجاً في العلم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حدث أن طُرِد عدد من إخواننا من الجامعة الأردنية، ففتح لهم عبدالعزيز جامعة صنعاء، وكان منهم صديقنا المشترك كمال أبو ديب، وأصدقاء آخرون، منهم صديق عزيز، كانت لنا أيام جميلة معاً، لقبه الشوبكي، ونسيت اسمه الأول، مع أني قابلته في عمان منذ أشهر معدودة، بعد سنوات كثيرة من عودته إلى الجامعة الأردنية.
وما ذهبت مرة إلى صنعاء - وما أكثر ما زرتها بفضل عبد العزيز - إلا ووجدت عشرات المبدعين والمثقفين العرب، يتيحون خبرتهم لطلاب الجامعة، ويسهمون في إشاعة مناخ ثقافي مفتوح، لم تعرفه صنعاء من قبل، فيما أحسب، وكان كل واحد من هؤلاء يضيف أكثر مما يأخذ. ولذلك أجمعنا على أن عبد العزيز المقالح يؤدي في اليمن دوراً لا يقل أهمية عن دور طه حسين في مصر، ولذلك أسميناه (طه حسين اليمن).
وكانت دواوين عبد العزيز المقالح يخرج الواحد منها بعد الآخر، ابتداء من (عودة وضاح اليمن) و(الخروج من دوائر الساعة السليمانية)، مروراً بدواوين (هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي) و(الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل). وكلها دواوين أهم ما يميزها - في تقديري - أنها تبدأ من الخاص الذي تغوص إلى قرارة القرار منه لتصل إلى العام الذي يخاطب القارئ العربي في كل مكان، بل يجاوزه إلى القارئ الإنسان في كل مكان. وكما جعل نجيب محفوظ من الحارة المصرية، في مدى تفاصيلها وعلاقاتها، رمزاً للإنسانية جمعاء، محيلاً الخاص المحلي إلى الإنساني العام فعل عبد العزيز المقالح، وخصوصاً حين اكتشف الكنز الثري من الشخصيات التي ينطوي عليها التاريخ اليمني، فاستمد عبد العزيز المقالح من هذا التاريخ، مثلما استمد من الموروث الشعبي المصاحب له، أقنعة ورموزاً يمنية في جذورها لكنها إنسانية في دلالاتها المتعددة حمّالة الأوجه. ولذلك تلعب قصيدة (القناع) دوراً أساسياً في شعر عبد العزيز، دوراً لم يتوقف، قط، إلا بعد أن انصرف الشاعر في عبدالعزيز من الخارج إلى الداخل، وذلك في استبطان روحي كان هو الأصل في ديوان (أبجدية الروح) (1998) و(أوراق الجسد العائد من الموت) (1986)، ولم يكد يترك عبد العزيز فرصة، رمزاً أو قناعاً أو حادثة، في تراثه إلا واستغلها موسّعاً من الأفق الإبداعي للتاريخ اليمني أفقاً تراثياً، سواء الرسمي أو الشعبي المحلي، وذلك لصياغة رموز شعرية، على نحو لم يفعله شاعر يمني قبله، ولا شاعر يمني بعده، فيما أظن.
ويبدو أن عبد العزيز في النهاية، وبعد أن شعر أن الشاعر فيه قد استنفد الرموز والأقنعة المستمدة من موروثه، ترك أقنعة الأبطال والشخصيات الرمزية مثل (سيف بن ذي يزين والثائر علي بن الفضل، ناهيك عن وضاح اليمن وابن زريق)، وانتقل منها إلى شعرية المكان، وذلك في المدى الذي أصدر فيه (كتاب صنعاء). وهو مجموعة رهيفة من المرايا التي تنعكس عليها رمزياً مفردات صنعاء المكان والرمز، وذلك في المدى الذي يمكن أن نطلق عليه شعرية القناع. وقد استهوى هذا النوع من المرايا، أخيراً، عبدالعزيز، فاندفع إليه بالحماسة نفسها التي اندفع بها إلى الرموز والأقنعة، ولكن هذه المرة في الفضاء الرمزي لشعرية المكان، فأصدر (كتاب القرية) و(كتاب المدن). ولم يتوقف عند ذلك، فقد أصدر (كتاب الأصدقاء)، وهو كتاب فريد من نوعه؛ لأنه مرايا لكل أصدقائه تلتقط الملامح الأساسية في كل واحد منهم، وتعيد تكوينها في هيئات انطباعية، يتجاور فيها الرمز مع الإشارة، والتجريد مع التجسيد، والنتيجة كتاب بالغ العذوبة في الدلالة على محبة عبد العزيز العميقة لأصدقائه، وللتنوع الخلاّق الذي تنبني عليه كتاباته الإبداعية.
وفي كل الأعمال الإبداعية التي أصدرها عبد العزيز إلى اليوم، في سياق الشعر العربي، يظل لإنجاز عبد العزيز تميزه وريادته وتنوع نتاجه. أضف إلى ذلك أن كل هذا الإبداع لا يخلو من معنى المواجهة الجسورة لكل شروط الضرورة، والسعي الإبداعي الذي لا يهدأ لاستبداع الأفق المفتوح للإبداع بكل ما ينتسب إلى الضرورة. ومن المؤكد أن الجسارة الإبداعية لعبد العزيز قد تسببت له في عدد من المشكلات الصعبة مع ذوي الأفكار المتخلفة الذين يسارعون إلى تكفير الآخرين، إذا اختلفوا معهم في الرأي، أو حاولوا الثورة إبداعاً على الجمود وعلى التقاليد البالية وعلى الموروثات. ولذلك فشعر عبد العزيز المقالح شعر مقاومة بامتياز، سواء في محيطه اليمني المحدود، أو محيطه العربي الأوسع، ولا شك أن عدم انكفاء عبد العزيز المقالح على المدار المغلق لتاريخ وطنه وقضاياه فحسب، قد فتح أمامه الأفق الرحب ليغدو شعره عنصراً تكوينياً أساسياً من الشعر العربي المعاصر، سواء في تحرر آفاقه أو حرصه على التجريب.
وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يحتل عبد العزيز المقالح مكانة مرموقة بين الشعراء العرب، وخصوصاً أبناء جيله الذين يمكن حسابهم على جيل الستينيات، أولئك الذين انطلقوا من حيث انتهى الرواد، ومضوا بعدهم إلى آفاق باهرة من الإبداع الذي لا حدّ لثرائه وتنوعه. ولذلك فبقدر ما يردد شعر عبدالعزيز أصداء جيل الرواد، تناصاً وإشارة وعلامات غياب في علاقات الحضور والغياب، فإنه يدخل طرفاً فاعلاً في حوارات التجربة الستينية، وفيما أسماه بعضهم (الحداثة المتوازنة). أعني الحداثة التي تريد أن ترى الجمال في النظام، وأن ترى النظام في الفوضى، ولذلك ظل شعره جاذباً لباحثين مختلفي التيارات في الكتابة عنه، سواء من المنظور المحدث، أو التفكيكي، أو النفسي، أو التحليلي. والنتيجة هي مكتبة صغيرة من الدراسات المكتوبة التي لا تزال مستمرة عن شعره.
ولا يبقى بعد ذلك سوى عبدالعزيز المقالح الدارس صاحب ما يقرب من ثلاثين دراسة أغلبها عن الشعر، ابتداء من جيل علي أحمد باكثير والزبيدي، وليس انتهاء بصدمة الحجارة، وأضف إلى ذلك بعض كتاباته التاريخية، فالرجل موسوعي الاهتمامات مثل طه حسين تماماً، وحريص على الإسهام في كل مجال معرفي. وقد أسس، في هذا المدى الموسوعي، مركز الدراسات اليمنية، وكانت البداية التي انطلق منها إلى جامعة صنعاء التي كانت بدورها بدايته في تأسيس جامعات أخرى غيرها، في جهد دؤوب وحماسة نادرة وذلك على نحو يبدو معه عبدالعزيز، بحق، بشيراً للتقدم ورائداً للاستنارة العقلانية وللإبداع الخلاّق في الوقت نفسه.
ولم يكن من المستغرب، والأمر كذلك، أن يحصل على عدد من الأوسمة، وأن ينتزع بجدارة جائزة الثقافة العربية التي منحتها له اليونسكو في باريس سنة. وأعترف أنني وأدونيس لم نجد معارضة تذكر في ترشيحنا له والوقوف إلى جانبه في المداولات السرية. ولذلك فرحنا، أدونيس وأنا وكل أصدقائه، بحصوله بعد ذلك على جائزة (الفارس) من الحكومة الفرنسية سنة 2003م، وجائزة الثقافة العربية من الأليكسو سنة 2004م.
ورغم كل هذه الإبداعات التي خلّفها عبدالعزيز والمناصب التي شغلها، وأنواع التكريم التي حصل عليها، فهو لا يزال على ما هو عليه، متواضعاً جم التواضع، وفياً لأصدقائه، عاشقاً لتراب اليمن وانتمائه العربي، باحثاً في قرارة القرار منه عن الجذر الماسي من الإبداع الذي يُحيل الخاص إلى العام، والمحلي إلى الإنساني. ولذلك فنحن - أصحاب عبدالعزيز - نبادله حباً بحب، وندعو له بالصحة والسعادة والعافية التي تجعله قادراً على المزيد من الإبداع والدرس على السواء. وأنا أعرف أنه وصل السبعين من عمره المديد، بإذن الله. وأرجو أن تكون تحيتي هذه شمعة صغيرة لوصول حياته الغالية إلى مرفأ السبعين التي أرجو أن تكون بداية عطاء جديد.
وابق لأصدقائك الذين يحبونك يا عبدالعزيز، ومنهم: جابر عصفور.