يظل الشعر هو الشعر، ذلك العالم الذي يستلب الداخلين إليه وإن أمنعوا في محاولات الخروج، ويظل رؤيةً ذات خصوصية تنجلي عن فرادة، وتعبيرًا عن محاولات الشعراء التأليف مع أنفسهم، ومفردات أكوانهم، كما تظل له - على الدوام - إمكانات تجاوز المواضعات اللغوية عن طريق مزج العناصر السابقة كلها في قصيدة.
ربما لهذه السمات انبغى علينا عند ذكر عبد العزيز المقالح أن نتجاوز - في كثير من الحيف - عن مشروعات فكرية ونقدية، وعن إنجازات أكاديمية وثقافية حققها الرجل، لكي نقف في النهاية - البداية عند بابه الشعري الذي يجمع وراء مصراعيه تلك السمات كلها، تلك الإنجازات والمشروعات التي تتبلور - في النهاية - في قصيدة ، أو كتاب يصور مشروعًا شعريًا يمثل خصوصية رؤيته، وعصارة فكرته وإنجازه.
وربما كان مفتاح هذا الباب - حين يمثل لأمر شاعرنا - متمثلاً في قدرته على التأليف بين النقائض، لصناعة كونه الخاص، ثم التعبير عن هذا الكون في سلاسة تنم عن أصالة هذا المزيج من المتناقضات التي يمكن لنا ملاحظتها بداية من كونه ذلك القروي المدني، الشاعر الناقد، المحب الثائر، المبتهج فرحةً بالحياة، الحزين الممتن للحزن (حيث صرح ذات مرة في مقدمة ديوان رسالة إلى سيف بن ذي يزن: (إذا صح أنني شاعر فقد أصبحت كذلك بفضل الحزن.. الحزن نفسه الذي كان ملهمي ومعلمي رغم أنفي)، المنغلق على نفسه وأسرته خشيةً، المنفتح على العالم بأسره شغفًا، التفعيلي الملتزم، الناثر المتمرد على الموسيقى العقيمة.
تلك النقائض التي لو اجتمعت لغيره لصارت النظرة إليه أنه يلعب في كل الخطوط، والتي عندما اجتمعت له - بأصالتها - صارت معبرةً عن قدرة على صهر العالم في سطر أو شطر من قصيدة، تستطيع أن تنجلي عن أصل قول الشعر:
سوناتة عذبة الكلمات
وطازجة
تترقرق مثل الندى
حاملة دهشة الشعراء
وكاشفة عن جنون الغرابة
(قصيدة: بطاقة للقرن الجديد)
إنها الدهشة - إذن - تلك التي تفجر إمكانية ملاحظة التناقض منذ البداية، والتي - عندما امتلكها شاعرنا - استطاع أن يكتشف موقفه إزاء العالم، وينسج هذا الموقف في أساليب لم تحاول التغريب أو الاغتراب فظلت كما قال (عذبه الكلمات).
تتجلي عذوبة الكلمات - بما هي إشارة إلى استعمال خاص للغة - ملمحًا أساسيًا في تجربة المقالح، يتواتر عبر قصائده، مقالاته وقصائده جميعًا، لتؤكد على انتماء شاعرنا لعالمه، أو قل أصالة عالمه فيه، ذلك العالم الأصيل الذي يتبدى في تأكيده لوجود عناصر تراثه الخاص داخل فضاءات قصائده، بما هي مقومات لإقامة بنية ركينة لا تنغلق على ذاتها، بقدر ما تستطيع بوجودها داخل القصيدة التحاور مع وجودها، من ناحية، ومع العالم خارجها (إن صح اعتباره خارجًا في هذا السياق)، وهو الأمر الذي يمكن عده ظاهرة منذ تجاربه القديمة:
يا أخوتي هل تذكرون حين مر
كيف بكي على بلقيس
وابن ذي يزن
ماتا فلم يضمهما قبر ولم يسترها كفن
كان على سفر
فثار، واستقر
حيث يوضح العنوان ذلك التوازي الذي أحدثته القصيدة بين تراث اليمن الثائر، وافتقاد الوجود المادي في وجود قبر أي منهما، بلقيس وسيف بن ذي يزن، وكيف أن وجود الضريح كان علامة على استقرار الثائر الذي سيصبح، منذ نقطة القول، جزءًا أصيلاً في هذا التراث.
إنها إذن رؤية جديدة تحاول أن تحدث عالمًا جديدًا، ولكنها لا تتخلى عن تلك الدهشة الطفولية التي تستنطق من الأضداد عالمًا متآلفًا متألقًا ربما يمكن للقارئ الحديث أن يلمحه في واحدة من تجارب المقالح الشعرية الشفيفة، هي مجموعته كتاب القرية.
يبدو كتاب القرية جامعًا لتلك المتناقضات المدهشة، التي جعلته مؤلَّفا من سبع وسبعين لوحة، لم تتميز إحداها بعنوان، كأنها حاولت تحليل القرية إلى عناصرها الأولية، دونما اختزال، معتمدة على الألق التشكيلي المنطلق من كلمة لوحة والمحاول في الوقت نفسه الوصول إلى جوهر الصيغة الوصفية التي تستوعبها القصيدة في عذوبة واضحة، لتبدو العلاقة واضحة بين عناصر الخلق الأولي: التراب والماء وصناعة البارئ ظاهرةً جليةً مصداقًا لقول القائل: خلق الله القرية وصنع الإنسان المدينة، وهذا التناقص هو أول العناصر الواضحة التي استطاع المقالح إن يؤلف - يؤالف بينها وإن بدت متنافرة، فهو المدني بحكم إقامته، القروي بحكم نشأته وهويته، وهو الواقف على نقاط التماس بين الدائرتين، لذا فهو المستطيع - عبر محاولات نفي كل منهما له ومقاومته لهذه المحاولات - أن يري ما بينهما جليًا:
ألا يمكن إزالة الجفوة القائمة بين المدينة
والقرية
وهل من تفسير معقول للصداقة اللدودة
القائمة بين ساكن المدينة
وساكن القرية؟
(كتاب القرية - اللوحة الثانية والثلاثون)
إن هذه الجفوة، وتلك الصداقة اللدودة هما الطرفان اللذان يحكمان هذه العلاقة التي يقف الشاعر على حدها الفاصل، وهو الأمر الذي يسبغ على نصوص المجموعة تلك السمات التي تعبر عن هذا التناقض، على مستوى الخطاب المبثوث فيها، خاصة فيما يتعلق بتمجيد القرية، الماضي المتآلفة مع نفسها والآخرين حيث:
لم تكن قريتي تعرف العنصرية
في الدم
والطائفية في الدين
كانت مبرأةً من غبار التعصب
مفتوحة من جميع الجهات
على الحب
(كتاب القرية - اللوحة التاسعة عشرة).
غير أن التجلي الأهم لتلك البوتقة التي تصهر فيها تلك التآلفات يبدو في التقنية الشعرية المبلورة للرؤية، خاصة فيما يتعلق بثنائية اللغة على المستوى الموسيقي حيث تنقسم اللوحات/ القصائد إلى مجالين تتجلى فيهما عناصر الفضاء التي استطاع شاعرنا التوفيق بينها لتتكامل، فتبدو جامعة بين نص مموسق تفعيليًا، يكون هو الجزء الأول المكتوب - على مستوى فضاء الطباعة - بحروف ثقيلة مثخنة، ويكون الجزء الثاني نثريًا وهو مكتوب بحروف عادية مع توحد نوع الخط، غير أن هذين الشكلين يعدان انعكاسًا لنوعين من الخطابات، وبحيث لا يكون الشكل مجانيًا.
إن هذا التقسيم يجعل لكل قصيدة - لوحة صوتين متمايزين، لتكون هذه التقنية وسيلة لتحريك سكونية القصيدة، وبثها زوايا رؤية متعددة، فمرة تجمع القصيدة بين رؤية للقرية وأخرى للمدينة، فيقول في المقطع الخاص بالقرية:
لا سرير بها
السرير الوحيد هو النعش
كل الرجال تنام على الأرض
كل النساء ينمن على الأرض
وفي المقابل نجد المقطع النثري المدني يقول - في القصيدة نفسها:
السرير أرحم من الأرض
السرير يحملك فوقه
والأرض تطويك تحتها
أيهما أخطر
السرير أم الأرض
(اللوحة الخامسة - كتاب القرية)
غير أن هذه القسمة لا تكون عامة بين المدينة والقرية، بل إن هناك ما يمكن أن يظهر عبر القسمين المتواترين على مدار كتاب القرية، كأن يختلف ضمير المتكلم، أو بالتعبير السردي وجهة النظر، فالمتكلم في المقاطع المموسقة غالبًا ما يكون عليمًا ببواطن الأمور، راويًا مهيمنًا، يتحكم في عالمه ويعرف عنه كل شيء بل يستبطن الحكمة من داخل هذا العالم، هو صاحب رؤية كلية بانورامية وإن دخلت إلى التفاصيل ورصدتها، فإن ذلك يكون بحس تشكيلي يصبغ التجربة:
عينه في الأعالي
يقبلها يمنة، يسرة
لا تكف عصاه عن الاحتجاج
ولا فمه
عبثًا كل ما تعملون
عبثًا كل ما تكتبون
في حين يكون الصوت النثري أكثر اعتدالاً وأشد تحليلاً في هدوء نبرة يركز على رؤية التفصيلات الدقيقة كأنها واقعة تحت عدسة مجهر، لكنها لا تتخلى عن الخط الاستنتاجي، الذي يستنبط الحكمة:
أحيانًا يعجز عن التعبير باللغة عن أحزانه
تجاه ما يقترفه أبناء قريته من أخطاء
فيلجأ إلى البكاء
يحدثهم عن أشياء سوف تقع فيكذبونه
وحين تقع يقولون:
خذوها من أفواه المجانين
(كتاب القرية - اللوحة الثالثة والعشرون)
إن هذا الجمع بين تلك المتناقضات البنائية والمضمونية ربما يكون مدخله الرئيس هو الشكل الذي ابتدعه شاعرنا على مدار الديوان حيث يجمع كتاب القرية -أو يحاول- كل ما يمكن أن يتعلق بها بدءًا من الولادة وطهور الطفل ونموه، وحقولها وحياتها اليومية، وأفراحها ومآتمها، ومكونات مكانها وزمانها ورؤى سكانها وأحلامهم وهواجسهم، وكل ذلك في إطار تجربة متكاملة تعكس رؤية مختلفة للعالم، تنبثق من حزن شفيف ينبئ عن محب جامح لمكونات طفولته، غير أنه في هذا الإطار لا يتخلى عن السمة الأصلية التي حددها لنفسه منذ البداية (عذوبة الكلمات).
إن ما يجتمع لعبد العزيز المقالح من إمكانية على التنقل بين أنماط تعبيرية مختلفة، مع حفاظه على هذه السمة يعد قدرة على التوفيق بين المتناقضات في صورة ربما منح إياها عبر طول رؤية نقدية، لكنها تتكئ في الأساس على تلك الشخصية الشاعرة القادرة على السير بين الأشواك والنيران، تقلب فيها البصر والبصيرة وتخرج منها بصورة - تجربة شعرية - مع عمقها - تنم عن الفرادة والتآلف اللذين أشرنا إليهما منذ البداية ليظل الشاعر هو الشاعر - هذه المرة - يصنع عالمه الذي يستلب الداخلين إليه، وإن أمعنوا في محاولات الخروج وتظل تجربة عبد العزيز المقالح الشعرية في حاجة إلى رؤى نقدية تجوب في عناصرها وأركانها وقدرتها على التأليف بين عناصر الكون لإنتاج كون أكثر نبلاً.
*كلية الآداب - جامعة حلوان