يعد (عبد العزيز المقالح) أحد أبرز شعراء الحداثة العربية منذ الستينات وحتى وقتنا الراهن، ولعل خصوصيته الشعرية تنبع من امتلاكه مشروعاً شعرياً واكب معظم التغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والإبداعية على مدى أربعة عقود. لقد استطاع أن يستوعب كافة تلك التغيرات والتحولات دون أن تسلبه خصوصيته.
والمقالح يحتفي باللغة إلى حد الافتتان بها، مما يجعل دراسته مغامرة تستحق التجريب، حيث إن الحضور الطاغي للغة يستحضر معه دائماً إمكانية شديدة الخصوصية للتأويل والاختلاف والتنوع الدلالي.
إن الكتابة لديه فعل روحي حي من أفعال التخلق الذاتي، حيث لا يشعر الإنسان بروحه إلا من خلال وجوده في العالم المادي.. ولذلك فالمقالح مهموم بتفجير وتثوير الواقع من خلال رؤية جدليته، يتوسط فيها وعي النص بين الإنسان والعالم.. وتصبح اللغة فعلاً من أفعال الروح التي تكتب نصها كي تتحرر من الاستلاب والتشيؤ.
فالاهتمام بالجانب الروحي داخل النص الشعري للمقالح لا يقتصر على الانشغال بهموم الواقع المباشر، بقدر ما يطرح بعداً كونياً لحركة وجود الإنسان داخل العالم.
ولعل الاقتراب من الجانب الروحي والوجداني الذي يطرحه شعر المقالح، وملامسة الروح التي يفتحها أمام القراءة، يفتح الباب أمام تحد يكرس الإحساس بحدود الباحث وهشاشته كلما أزمع على ارتياد مغامرة الدراسة. ومع ذلك فقد أزمعنا على المغامرة للدخول في هذا العالم الخفي، الذي يلتبس فيه ألم القراءة بلذتها. وهو ما يجعل التورط في دراسته استحقاقاً لانتساب معرفي يكشف قصور كثيرين ممن يقرؤون شعر المقالح قراءة حرفية، أو يتوقفون عند المعاني السطحية.
معلوم أن كل دراسة تتوجه إلى موضوعها بغية إعادة بنائه وتعميق المعرفة به، انطلاقاً من الأسئلة التي تنتجها عنه وتفتحها فيه في آن (وتحديد الإشكالية لا يعني بلوغ عتبة امتلاك معرفة نهائية بالموضوع، بقدر ما هو سعي إلى تجديد الرؤية إليه) وقد انشغل المقالح بالجانب الروحي من منطلقين متداخلين:
1- للمقالح تصور متماسك عن الروح تتجسد في رؤيته لمفهومها، بناء على خلفية وجودية ومعرفية ولغوية، واعتماداً على تجربته الذاتية. وهو تصور لا يتكشف إلا بكشف العلاقات التي تنتظمه وتفتح مفهوم الشعرية على غيره من المفاهيم وقد انخرط المقالح بهذا التصور في القضايا التي شغلت الشعرية العربية القديمة والحديثة، على نحو يسمح بإشراك آرائه في إعادة قراءة هذه الشعرية.
2- لم يكن تأمل المقالح لمفهوم الشعرية بمعزل عن ممارسته لها، بل إن الحدود الفاصلة بين التأمل والممارسة تضيق عنده إلى حد التلاشي في سياقات عديدة.
وهذه الدراسة، تتوجه إلى المقالح بوصفه شاعراً وجدانياً، على نحو يقربه من اهتمامات الصوفيين القدماء، وبوصفه شاعراً أنتج خطاباً ينطوي على أسئلة تمس المسألة الوجودية وتطرح قضايا الروح.
إن هذه الدراسة، تعتمد على قراءة نسقية، تعول على الوشائج والعلاقات، مهما بلغ خفاؤها، ومهما أصر المقالح على التكتم عنها.
يمثل كل نص شعري تحدياً مفتوحاً لدراسته النقدية، الأمر الذي يجعل دراسة شعر المقالح تتوقف عند نقطة لا تتبدى مركزيتها داخل النص الشعري فحسب وإنما تتبدى في الثقافة التي ينتمي إليها ذلك النص أيضاً. والروح هي النقطة التي أزعم مركزيتها الثقافية والشعرية، والتي لا يحصرها شعر (عبد العزيز المقالح) بقدر ما يحملها رؤيته، وهي لا تستوعب كافة أنساق النص الدلالية بقدر ما تشكل دالاً مركزياً لإمكانات تأويل تلك الأنساق وطرائق قراءتها.
وانطلاقاً من خصوصية العلاقة بين النص والروح استهدفت هذه الدراسة تقديم قراءة نقدية لأحد شعراء حركة الحداثة العربية المتميزين، حيث تحاول طرح تصور دلالي لإمكان قراءة النص الشعري عبر حضور دوال الروح داخل سياق التجربة الإبداعية.
وتعد هذه الدراسة موجهة لتلك الرؤى النمطية والقراءات القاصرة التي أفقدت شعر المقالح امتيازه الدلالي، ليظل جملة اعتراضية في سياق من التحريم والمنع.
إن قراءة شعر المقالح تكشف عن ذلك التجلي الحسي المطلق، فهو يؤسس تجربته على التعارض بين العالم العلوي والأرض (كبد يلين للشكل والمضمون) ويؤسس بناءه على التوتر القائم بينهما. إن هذا التوتر الناشئ عن التعارض بين العالم والأرض المضمون والشكل، يمثل التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة، والاستتار والغموض من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل دخولنا لفهم شعر المقالح عملية وجودية، يفصح فيها الوجود عن نفسه لنفسه.
وإذا كان العالم ينفتح من خلال العمل الفني، فإن الانفتاح الوجودي عند المقالح يأتي من خلال وعيه بوجوده الذاتي، فالوجود الذاتي للمقالح لحظة من لحظات الوجود الحقيقي.
وهناك كثير من القراء يقعون في معضلة سوء الفهم. إن المقالح يعتني بالحقيقة الوجودية، (وهو بذلك يفتح للمتلقي عالماً جديداً ويوسع من أفق عالمه وفهمه لنفسه) فالمتلقي حين يقرأ شعر المقالح يكون أكثر حضوراً ويحقق فهماً لنفسه حين يدخل -من خلال هذا الشعر- إلى وحدة وذاتية الآخر بوصفه عالماً. إننا حينما نقرأ شعر المقالح نستحضر ما سبق أن جربناه في حياتنا، ويتوازن - من ثم - فهمنا لأنفسنا.
وكما قلنا قبل قليل إن اللغة في شعر المقالح لا تشير إلى الأشياء، بل الأشياء هي التي تفصح عن نفسها من خلال اللغة. ومن هنا فإن عملية الفهم تكون متغيرة طبقاً لتغير الآفاق والتجارب لدى المتلقين.
وميزة (عبد العزيز المقالح) أنه يستخدم الرمز بوصفه نافذة نطل منها على عالم من المعنى، والرمز في شعره يمثل وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه.
إن بنية الدلالة عند المقالح يدل فيها المعنى الحرفي والأولي المباشر على معنى ثانوي مجازي غير مباشر، لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال المعنى الأول.
وهنا يمكن للقارئ أن يعمل على شفرة المعنى الباطن في المعنى الظاهر، وفي كشف مستويات المعنى المتضمنة في المعنى الحرفي.
إن مفهوم الروح في الحضارة الإنسانية مفهوم غير قابل للتجسيد، لذلك فقد أوقفت كثير من التيارات الفكرية والفلسفية جهدها على دراسة تجليات الروح وحضورها المباشر وغير المباشر في سياق المعرفة الإنسانية.
لقد ظلت الروح بالفعل، وبطول التاريخ الفكري للحضارة الإنسانية، مستورة ولا يمكن إدراكها، يقول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. على هذا الأساس يمكننا القول إن الروح هي الوعي المتبادل بين الذات والعالم.
وهذا ما أكد عليه النص الشعري عند المقالح، فهو يجعل من الروح نصاً يهدف إلى قراءة (الذات) صيغة وجودية حرة، ويتوجه إلى الآخر مشركاً إياه في إقامة علاقة فعل دلالي داخل تلك الصيغة، بينما يبدو العالم - بين هذا وذاك - مرآة لوعي الروح بتجليات حضورها العام والخاص، على حد سواء:
أفوض أمري إلى الله
أصعد معراج روح رأت موتها
قبل أن يستحم غبار المدينة
في الجفن،
يختارها زمنٌ
ومكان بلا رغبةٍ،
ويكون لها جسدٌ
ولسان وعينان،
كانت ترى،
وتنوح وتشكو؛
رأت كائناً يتحرك فوق هدير التراب،
ويحملها بين جنبيه
يجري بها تارة في حرير من الضوءِ
مغمورةً بظلالٍ من العطر،
يجري بها تارة في كهوف من الرعب
مبتلة بصقيع من الخوف
شاردة ذاهلة.
أفوض أمري إلى الله
أصعد منتشياً في ارتعاش القصيدة،
أخلع عني - في عجلٍ -
جسداً أرهقتني مخاوفه
ونوازعه،
أوجعتني انطفاءاته
حين يعشق أبهة الحزن
حين يداري مغامرة لا تليق به،
يا رفيق طفولتنا
وصبانا
ومأوى الكهولة،
يا أنت يا جسدي..
كيف أغلقت نافذة الروح
أطفأت أعذب ما فيك،
أغمضت قلبك،
في خندقٍ مفعم بالغواية،
ألقيت كنز هواك
وفي غسق لا قناديل في سقفه،
تتخبط،
تقتات أحلامك الفاشلة ؟
لقد وضع المقالح على عاتق تجربته الشعرية تحقيق وجود الروح في صيغتها الحرة، فالروح تتحقق عبر ثلاثة محاور: الذات - الآخر - العالم. والروح لا تتحقق إلا عندما تنفلت من فعل الجسد زماناً ومكاناً. فالروح عند المقالح هي التي تكون الجسد:
أصعد معراج روح رأت موتها
قبل أن يستحم غبار المدينة
في الجفن،
يختارها زمنٌ
ويكون لها جسد
ولسان وعينان...
وبما أن المقالح هو رائد من رواد الحداثة العربية، فإن شعره يحمل من الدلالات الإنسانية الشيء الكثير، فهو يبدأ من أكتناه الذات ؛ وينتهي باكتشاف العالم، فهو يعي أن ما يحجب الذات ويضعف رؤيتها، ويضيق عليها الخناق هو تكدس العالم فوقها وغموض مفرداته، وبالتالي يتحول أي فعل أو حركة للروح في اتجاه التخلص من الجسد إلى مأزق وجودي، وتصبح الروح معلقة بين انطفائها القائم، ونزوعها المبرح إلى الحرية، إلى وجود طليق لا تحده الحدود ولا تقولبه السلطة السائدة.
إن الروح - هنا - في كينونتها الحقيقية ليست مجرد حامل لصيغة وجود الذات في العالم بل هي فاعلها الأصيل. والروح في تمركزها داخل الجسد هي قدرته على التخطي والفعل وتغيير القيم أو إعادة تثبيتها. والروح عند المقالح هي المركز التأويلي لتوجيه القراءة، فقد استطاع خلق محورية دلالية خاصة للروح الإنسانية، ليحتفظ للروح وحدها بقدرة توليد الدلالات في النص:
أصعد منتشياً في ارتعاش القصيدة،
أخلع عني - في عجل -
جسداً أرهقتني مخاوفه
ونوازعه،
أوجعتني انطفاءاته
حين يعشق أبهة الحزن
حين يداري مغامرة لا تليق به..
يحاول المقالح العبور إلى المتعالي بالرحلة إلى الخارج، لكنه يعرف أن المكان الوحيد في الكون الذي نستطيع منه أن نقترب إلى الله، هي الروح. إن رغبته الوحيدة والمسيطرة عليه أن يعبر فوق الهوة الفاصلة. لقد بدأ الوعي بالهوة يبزغ في روح المقالح وتملكته الرغبة في العبور، ففوض أمره إلى الله.
إنه يبحث عن طريق الصعود الذي يمر من خلاله نحو السماوات السبع، إنها رحلة الروح لتحقيق عودتها إلى الله.
إنه يحاول عتق الروح من الجسد وتحريرها من مزالقه ومغامراته التي لا تليق به:
يا أنت يا جسدي..
كيف أغلقت نافذة الروح
أطفأت أعذب ما فيك،
أغمضت قلبك،
في خندق مفعم بالغواية،
ألقيت كنز هواك
وفي غسق لا قناديل في سقفه،
تتخبط،
تقتات أحلامك الفاشلة؟
العلاقة هنا بين الروح والجسد، علاقة انتماء لا تماثل. لذا، فإن المقالح لا يأبه لهذه الفروق، يتابع ارتحاله الروحي في الكون، وارتحاله الفكري نحو المعرفة، وهو يحمل هم هذه الروح وغسلها من الظلمة التي ألقاها فيها الجسد.
هل يمكننا القول أن المقالح هنا يرثي هذا الجسد الذي يطفئ أعذب ما فيه، أم أنه يرثي الآخر الذي عجز عن فهمه؟
إنه لا شك يعلم معنى السلب والإيجاب ومعنى السكون والحركة. فهو يعلم ما معنى أن يسلب الجسد روحه وما معنى أن يسلب القارئ شعره من معانيه الحية. إنه يفكر بمأزق تدني الجسد وإعراض الناس عن القراءة والمعرفة.
هكذا يتعالى النص عبر السخرية من الجسد دون أن يقدم إدانة مباشرة لأولئك الذين يرفضون المعرفة. فمثلما تشع الروح داخل الجسد، فإن الحكمة في شعر المقالح تتبطنها اللغة كنواة مشعة داخل جسد القصيدة.
تتجلى الروح هنا، وقد تحولت إلى رمز ديناميكي مولد لحياة جديدة أخرى، يمكننا القول إن المزاوجة بين الجسد والروح، يؤدي في جوهره الغامض بعداً إبداعياً متعالياً يسرد علينا حكاية الغصة الإنسانية أمام العالم والوجود. إن فلسفة الروح في شعر المقالح تؤكد على التحول التي وصفها الدكتور محمد عبد المطلب بقوله: (وتحولات الذات تدفعها من الفردية إلى الجماعية لتنتج لنفسها قدراً أكبر من ممارسة فاعليتها. أو لنقل أنها تندمج في الآخر والآخرين فتستحيل إلى تشكيل جديد يتيح لها نوعاً من الرؤية الشمولية التي تتحرك على السطوح والأعماق أفقياً ورأسياً لتبلغ درجة الإدراك الواعي العميق)
وفي ضريح من الكلمات لمريم، يجعل المقالح الجوع موضوعاً ليصبح هو الذات المدركة التي تتعقل العالم وتدرك العلاقة بين الجوع والموت، وتخاطر بنبش المفاهيم التي يستكين إليها البشر بقلق فكري وفضول معرفي، تحدوه الحرية وقوة الإرادة على وجه يسمح له بوضع العالم مقابل الذات:
( مريم احترسي
إن ذئب المجاعة يأكل أطفالنا
ويواري الجمال بأكفانه..
قيل: مريم جاعت
قيل: مريم نامت
قيل: مريم ماتت؛
ليتني كنت خبزاً
تفتته بأصابعها
حين يدركها الجوع..... مريم،
ليت الحقول التي منعتها سنابلها،
لا تطيب
ولا تعرف الإخضرار.
إن المقالح يسرف في رصد فظاعة الواقع ويكشف عن الخواء الروحي في المجتمع وعن إحساس الطفولة بوطأة الحياة وضراوتها. فذئب المجاعة يأكل الأطفال ويواري الجمال بأكفانه، بالرغم من الحقول الممتلئة بالسنابل والمزدانة بالاخضرار.
إن الموت يكتسب دلالة جديدة، فقد حرر مريم من الجوع. فهي لم تعد بحاجة لأن تحيا، فالله هو سيد الموت كما أنه سيد الحياة.
إن (عبد العزيز المقالح) يعمق إحساسنا بمخاوفه وأحلامه وينقل لنا مرارته ويعمق وعينا بالذات ومسئوليتها:
........
........
عادت مريم للطين
وصرت وحيداً..
فاكتب بالحزن ضريحاً لهواك الأول،
مريم تحت الأحجار
وأنت وحيدٌ،
لا يربط عينيك بهذي الأرض
سوى ماء الحزن،
سوى صمت يتساقط
في أحداق الليل،
سوى رائحة منها
تتجدد في كفك
في عينيك إذا لامست الأرض.
إنها حالة خاصة من اليقظة الشعرية الفياضة تعبر عن عالم الأحلام والرؤى، عالم الشعور واللاشعور معاً. إنه حريص على أن يغذي عالم الحلم بالواقع فيستوحي الموقف الديني بكل تجلياته.
إن الأطفال بطبيعتهم الحرة النقية يقبلون على الحياة فيلعبون ويمرحون خارج الديار، فيستفرد بهم الذئب فيأكلهم. إن الذئب هنا ليس ككل ذئب، فهو ذئب الجوع، لذلك هو حريص على أن يمحو من المجتمع كل ملامح الاستبشار والحكمة والنور. فالأطفال هم أعداء الخوف والأحزان، لذلك يجب القضاء عليهم لهذا السبب، فالجوع والأحزان لا ينبتان من واقع فطرة المجتمع، أو فطرة الإنسان، وإنما عليهما روح منكرة غريبة تتزيا بزي الذئب وهو أقرب إلى القبح لأنه يدفن الجمال ويواريه بأكفانه:
ليتني كنت خبزاً
تفتته بأصابعها
حين يدركها الجوع.
ارتفع الخبز هنا إلى قمة عالية حين ارتبط بالروح، فالنشاط الروحي ينبع من الاكتفاء. والمقالح يربط بين ما هو مادي كاف وما هو روحي، ويغرس الروح في قلب ما تنتجه الحقول. وقد استعمل لفظ (يأكل أطفالنا) وهو تعبير عن آثار الأكل لا عن آثار العطاء:
يا أحبائي
يا نزلاء الحزن الدائم
إن خطاي مسمرة
في أرض تجرحني بالذكرى،
تنقذني بالذكرى
تكتب صمتي
وتقاسمني عشب التذكار،
تحاول أن تسلبني عفة حزني
وتصادر دندنةً أطلقها عشقي
ذات مساء حالم..
هل من موعظة
يتكئ القلب عليها،
ويواري خيبته الكبرى ؟!
إن الواقع بدمامته وقبحه ومرارته وما فيه من أخزان يقيد خُطا الشاعر في أرض تجرحه بالذكرى، فتكاد تفلت هذه الذكرى حتى تتحول إلى منقذ حين نكتب صمت الشاعر.. إنه تقابل بين الجرح والإنقاذ، يخلق لحظة مركبة شديدة التوتر يلتقي في أحشائها النقيضان: الجرح والسلامة، إنه لقاء صراع لا لقاء مصالحة، ومن هنا تكتسب اللحظة المأساوية مأساتها، فهي تريد أن تسلب الشاعر عفة حزنه. وليس كلامنا عن الحزن ببعيد عن اللذة، فالحزن هو الذي يؤدي إلى طلب الوصال. لكن الأرض تحاول أن تسلب الشاعر عفة حزنه وتمنعه من الانطلاق نحو الوصال لتحقيق اللذة. أي أن الحزن هنا يرتبط بالناحية الروحية أساساً. فالمقالح يتطلع إلى الموت بوصفه كرامة لأبينا آدم، فهو إذن يعد نفسه لذلك ويتوقعه، وهو يرى أن الروح هي التي تحرك البدن، لكن البدن يعمل على خنقها. ونتيجة لذلك يكون الموت للبدن والحزن للروح.
ولكي يتجاوز المقالح ما هو فيه ويدرب نفسه عليه، فإنه يحتاج إلى موعظة يتكئ القلب عليها لكي يوازي الجسد خيبته الكبرى. ولذلك فإن الروح بطبيعتها يجب أن تتعلق بما هو غير مرئي وكل ما هو مرئي لا يدرك إلا بالعقل. ومن هذا المنطلق فالمقالح يلجأ إلى الموعظة التي تحررنا تحرراً كاملاً في ساعة الموت. إن المقالح يكشف هنا عن الموعظة بوصفها شيئاً له أهمية ونتيجة ويترتب عنها فارق لأنها مصدر قوة. ولأنها قوية يمكن أن تعتبر ترياقاً فاعلاً ضد الموت:
سوف تبقى معي
في ضريح تلاشت معالمه،
في القصائد،
في شارع مقفر لا أنيس به
في اشتعال التذكر،
في دفء حلم قديم
وفي كل وجه جميل قرأت ملامحه،
وإذا ما التقينا هناك
سأقرأ ديوان شعري لها،
وأقول:هنا أنت مرسومة في القصائد
منقوشة - كالتعاويذ -
في الذاكرة .
إن الروح في هذا المقطع هي المركز التأويلي لتوجيه القراءة، مما يجعل الشعر فعلاً من أفعال التخلق الذاتي، تنقل القصائد تجربة الذات من خلال القصائد التي ترسم الروح وتنقشها. إن الروح هنا تدخل تحدياً غير متكافئ الأطراف، فهي في ضريح تلاشت معالمه. ومن هنا يبدأ إدراك الروح لدور الشعر (بوصفه كياناً قائماً) في تحقيق وجودها. إن الروح هنا تنفتح على عالم الشعر بهدف إقامة علاقة مع عالم الجمال المحيط. والشعر هنا يحاول إثبات قدرته على إدراك كنه الوجود الذي تحمله مفردات العالم، وامتلاكه لإمكانية خلق هذا الوجود لمفرداته هو.
إن (الضريح) نموذجاً للموت الذي يحاول الشعر اختراقه بهدف الكشف عن طبيعته، وبالتالي طرح إمكانية التعالق معه. ليستمد الشعر من خلال فعل التعالق وجوده الأكيد.
إن المقالح يبحث عن خصوصية العالم الغائبة وراء مظهره المادي الذي كان سبباً في هذا الضياع الذي يعيشه الإنسان على سطح الأرض. وهنا يبدأ في البحث عن حقيقة العلاقة التي تربط بينه وبين ذلك العالم المحيط، متجاوزاً مادية مفرداته، يقول في قصيدة (خمس لوحات).
النبي:
هو الشمس
من ضوئه تستمد الخليقة حكمتها
واستنارتها،
هو من أوصل الأرض بالله
في لحظة لا مثيل لها،
بأصابعه المطمئنة
أو صد أبواب مملكة الليل
والظلمة الأبدية،
أطلق في الأرض أشجاره
وقناديله،
فاستوى ظلها
واستقام لها الضوء....
ماذا جرى يا ابن آمنة
المصطفى؟
كيف أغمدت سيف المحبة
في كبد الحقيقة
أعلنت أن العباد سواسية؟
يربط المقالح هنا بين النور والظلمة، فالنبي هو الشمس الذي بدد الظلام واستمدت الخليقة من ضوئه حكمتها. لذلك نجد المقالح ينجذب نحو الكمال، وهو يصبو إلى التحكم في حركة الزمن ودورته التعاقبية، فلم يعد الليل قائماً فقد أوصد النبي أبوب مملكته وحول الظلمة إلى نور وقوى أواصر الحميمية بين الأرض والسماء. ومن هنا تصبح الأرض مساوية للجسد والروح مساوية للسماء. فالأرض مركز الكون والروح تتجلى فيها الطمأنينة والعلو. ولا عجب من ذلك، ما دمنا في حضرة مقام المصطفى. وعلى هذا الأساس، نفهم سر إغماد سيف المحبة في كبد الحقيقة، ليصبح العباد سواسية. هناك اتصال مادي بآخر معنوي، يتمثل ب(اتصال السيف بالمحبة والكبد بالحقيقة). والشق الأول يرتبط بالموت، لكنه ارتبط بالمحبة أما الشق الثاني يرتبط الكبد بالحياة، لكنه ارتبط بالحقد. غني عن القول أن ما يشير إليه المقالح في هذه الفقرة هو انتقاد لأولئك الذين يقرؤون شعره ويلقون بجهلهم في شعره. فإذا كان الشعر الحديث يمارس ابتكار ذاته بالتجديد لغة وبناء، ودلالة ومضموناً، فلا بد من قراءته من خلال هذا المنظور وعبره وليس من خلال المنظور المتداول وربط الدوال بمعانيها الثابتة ودلالتها الأحادية. ولا يصعب على القارئ أن يجد في استحضار النبي في هذا النص أن المقالح يشير إلى رمز مفعم بالدلالات، وشحنها بطاقات جديدة وتحويلها في اتجاهات تلاؤم النظر إلى الحاضر والمستقبل:
الصديق:
لي في العزلة المطمئنة
أن أتذكره،
أتذكر وجها من الصدق
أهدى إلى بشر الأرض
أمثولة لليقين
بماء صداقته
تكتب الأرض أبنائها الطيبين،
السموات تختارهم للمهمات،
تغسل أرواحهم بندى الكلمات،
وتطلقهم في فضاء العصور
جيوشاً من الضوء...
يا سيد الصدق
يا ثاني اثنين في الغار،
كيف ترى أمة لا صديق
ولا صدق في أهلها،
تتقلب جثتها فوق نار الأكاذيب
أحلامها شجر طاعن
ومواقيتها لغة تالفة ؟!
إن المقالح يستعيد القراءات والتفاسير التي مهدت للانغلاق الديني باستحضاره للصديق أول الخلفاء الراشدين، الذي يدور حوله خلاف عقائدي مذهبي. والصديق هو المعادل الموضوعي للشاعر الذي يدور حول شعره خلاف ديني. لذلك يبدو العالم من حول الشاعر مسكوناً بالكذب وخالياً من نعمة الصداقة:
يا سيدي الصدق
يا ثاني اثنين في الغار،
كيف ترى أمة لا صديق
ولا صدق في أهلها،
تتقلب جثتها فوق نار الأكاذيب....
إن تجربة المقالح الإنسانية تنقل له استحالة العثور على صداقة حقيقية بين البشر. لذلك فهو يستحضر الصديق ويلوذ به. فهو يحترق بآلام من حوله. ابتداء بالحاسدين، وانتهاء بالأصدقاء. إنه عالم موار بالكذب. لذا نجد كلما أوغلنا بالقراءة في هذه النص وجدنا النبرة الحزينة والإيقاع الداخلي الجريح، فصوت المقالح مشبع بعمق المرارة.
لم يعد الزمن زمن الصديقين ولا زمن المبدعين، فالشعراء أضحوا عرضة للتجني وإلحاق الأذى والرفض، وهو فعل متماثل مع ما لحق الصديق من أذى مذهبي، لقد أصبح تاريخ هذه الأمة تاريخ عقيم وأحلامها شجر طاعن يمنع نشوء حياة جديدة:
الفاروق:
أيجوع الخليفة
والأرض ملك يديه
الفراتان
والشام
والنيل - لو شاء - كانت حدائقه؟
ليس بالخبز يحيا تلاميذ احمد
أو بالقصور يشيدون مملكة الله...
هذا أوان الحساب:
الخليفة جاع لتشبع أمته
كم من الخلفاء يجوعون...
بل يشبعون ليأكل طفل؟
وكم حاكم يتفجع
إن عثرة بغلة في جبال العراق
أو ارتعدت من بكاء اليتامى
أنامله؟
يا له رجل في ثياب مرتقة
وضمير بلا رقع
أو ثقوب
ها هو المقالح يروي ما كان في الماضي ويغري بالصعود إلى المطهر وعالم السموات، إن المقالح يسعى واعياًَ إلى تشخيص مأساة هذه الأمة الغارقة بالجوع والمثخنة بالجروح التي تنزف من أعماقها. إنها تتخبط بمأساة الفقر والجوع وتفور بالرعب والقتل والدماء والصراعات الدنيوية، وهو يحلم بالخلاص وبزمن كزمن (أبي بكر وعمر) والمقالح لا يقدم لنا قراءة مذهبية ضيقة للتأريخ، بل يقدم قراءة إنسانية مفتوحة له. وهو لا يمذهب الصديق والفاروق ولا يتخذ منهما موقفاً وحدانياً يحل التناقضات ويلغي التضارب لمصلحة رؤية مذهبية ضيقة. إنه يدفع بهذه التجربة إلى درجة أبعد، مثرياً إنسانيتها وقدرتها على الديمومة.
إنه يفضح تأريخ الجهل والقمع والقتل. إن الجرح الحقيقي الغائر عمقا في ذات المقالح، لا يصدر عن الإساءة التي توجه إلى شخصه، لكنه يصدر عن ألمه من هذه الروح التدميرية التي توجه لهذه الأمة. إن أذى المسيئين لأنفسهم أكثر خطورة من أذاهم له. إنه يقف شاهداً على أذاهم التدميري لأنفسهم قبل أذاهم له.
يمكن إدراج شعر المقالح في إطار نظرية عامة للثقافة تطرح الشعر ليس بوصفه طريقة تعبير بل بوصفه طريقة معرفية تتخطى (عقلانية العلم البارد) إلى حقائق أسمى إنسانياً وأعمق من حقائق العلم.
وهذا ما يتوخاه المقالح وهو يستدعي المصطفى والصديق والفاروق ليندمج معهم ويشكل كينونته المتعالية بوصفها استشرافاً، وإضاءة للوجود، وتأويلاً يعيد من خلاله تقويم العالم ويكشف القيم الضامرة، وكل المعاني المحتجبة.
وأخيراً، أجد صدور هذا الملف مناسبة ملائمة لإطلاق دعوة قوية إلى تكريم هذا الشاعر العظيم بما يليق به، وهو حي يرزق، بدلاً من أن ننتظر، كما نفعل دائماً، رحيله عنا كي نتذكر عظمته. إن المقالح ثروة قومية لا ينبغي التغاضي عنها أو التعامل معها بما لا يليق بعظماء الشعراء في مجتمع ما. نحن أمة تحفظ من تراثها الغث، فليكن هذه المرة أن نحيي تراثا نبيلاً بحق. إنني أدعو اليمن بلد الشاعر والمؤسسات العربية أن تحتفي بهذا الشاعر وتكرمه وإطلاق مؤسسة ثقافية وجائزة علمية باسمه وإعلان منتدى المقالح وظيفته الأساسية أن يكون منتدى للباحثين والدارسين والشعراء والعمل على ترجمة أعماله إلى لغات أجنبية.
كذلك أتوجه بالدعوة لأصحاب المال العرب أن يقوموا بعمل مشرف لهم يخلد ذكرهم، وهو أن يتبرعوا بالمال لمؤسسة ثقافية باسم المقالح.
قد تكون دعوتي هذه صادمة للبعض، بدافع الغيرة والحسد، وقد تثير الشفقة على المقالح وإبداعه مما قد يبدو للبعض حماسة صديق وقد يستنكرها لمواقف سياسية أو إقليمية أو مذهبية أو عقائدية. غير أن ذلك لا يحجب الحقيقة: وهي أننا أمام شاعر كبير يليق به أن يكرم أجل تكريم. وإنه لمن واجبنا ومصلحة ذاكرتنا ومجتمعنا أن نؤسس تقاليد التكريم هذا لشاعر كبير قبل أن يموت، وألا ننتظر رحيله كي نندبه ونبكي عليه بدموع بعضها صادق مخلص وبعضها كاذب مرائي.
إن تكريم كهذا سيعيد لنا قليلاً من الاحترام للنفس وسيظهر حرصنا على مستقبل هذه الوطن حين نكرم مفكريه ومبدعيه.