الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح عالم يمني بارز وأحد رواد الأدب العربي الحديث وله تاريخ حافل بالعطاء والإبداع المتجدد في ميدان الشعر والأدب فقد كانت الحداثة هي المنهاج الذي سار عليه الدكتور المقالح في مسيرة عطاءاته الشعرية التي أثرت الحياة الثقافية بروائع كتاباته وانجازاته التي تزخر بها اليوم المكتبات اليمنية والعربية من خلال دواوينه وإصداراته التي تحمل في طياتها ألوناً متميزة ونماذج فريدة من القصائد التي تتجلى فيها صور الحداثة والإبداع الأدبي والشعري.
(الثقافية) التقت الدكتور عبدالعزيز المقالح وأجرت معه حواراً تناول الكثير من قضايا وهموم الأمة ودور الأدباء والمثقفين العرب والواقع الذي تعيشه الساحة العربية في ظل ما تشهده من معطيات ومستجدات مختلفة ومتسارعة.. وقد كان صريحاً في اجاباته واضحاً في أطروحاته وقراءته لمجمل تلك القضايا التي تضمنتها جملة الأسئلة والاستفسارات التي طُرحت عليه.
ومع أن إجاباته كانت هادئة.. إلا أن ثمة شلالات من الأفكار الجريئة والصريحة تتدفق منها.. تلامس فيها أفكاراً أدبية متقدة بخلفيات سياسية,رغم إيمانه بأن السياسية تحرق الأديب مثل الفراشات التي تتساقط أمام أشعة المصابيح.
الدكتور عبدالعزيز المقالح نفى في حديثه ل(الثقافية) ما يقال عن وجود عداء بينه وبين أي من التيارات الإسلامية فكرية كانت أم سياسية سلفية أو معاصرة.
واعتبر الدكتور المقالح أن السياسي في الوطن العربي هو من قاد المثقفين إلى مثل هذه الوضعية المتردية من الاحتقانات الذاتية التي قال إنها تركت على جسد الواقع العربي من جراحات وندوب لا تبرأ.. مؤكداً في الوقت نفسه أن السياسي العربي كاد يقود الأمة والتاريخ إلى حافة الهاوية لولا بقية من العقلاء والصامدين في وجه العواصف التي تهب على الصعيدين العربي والكوني.
وأضاف في سياق إجاباته على أسئلة (الثقافية) أن انتشال الواقع الثقافي العربي من حالة العزلة والخمول يمكن بمزيد من الوعي والقبول بالآخر، وبإدراك الأنظمة أن الثقافة هي الكلمة، وأن الكلمة الواعية الهادئة بمقدورها أيضاً أن تنزع الوطن كله بل الأمة كلها من حمأة الهزيمة.
وفيما يلي نص الحديث:
* حرصت على أن تكون مرجعية عربية لكل المشارب والاتجاهات الفكرية.. ألا زلت ترغب في أداء هذا الدور؟
- لا يملك الشخص أن يكون مرجعاً سياسياً أو أدبياً، وإنما قد يكون كذلك بإنتاجه وبما يقدمه لزمنه ولآداب لغته من إنجازات، أو إضافات قد ترى فيها الأجيال اللاحقة ما يعزز رؤيتها ومنهجها في التحديث، فتصبح جزءاً من ثقافتها ومرجعياتها وعادة ما يحدث هذا من بعد حياة الكاتب أو الشاعر نفسه، كما حدث على سبيل المثال مع السياب الذي غدا شعره بعد عمره القصير في الحياة مؤثراً ومرجعاً في الحداثة الشعرية. إذاً فلا دور مطلوب مني لأعود لألعبه في هذا المجال.
لا عداء
* ما سر العداء المستحكم بين الدكتور المقالح والتيارات السلفية الأصولية الإسلامية؟
- لا عداء بيني وبين أي من التيارات الإسلامية فكرية كانت أم سياسية سلفية أو معاصرة لسبب بسيط هو أنني أشتغل؛ ومنذ بداية حياتي في منطقة لا علاقة لها بهذه التيارات، وهي حقل الأدب الذي يتسع للوجدان، والوطنية، والرؤى الفكرية دون استهداف مسبق لجهة أو تيار. وإذا كانت الحداثة الشعرية التي اتخذتها منهجاً وأسلوباً لا ترضي بعض الأطراف لأسباب فنية أو فكرية؛ فلا يعني ذلك المناوءة بمعناها العدائي الذي وصفه سؤالكم بأنه مستحكم.
الفجوة بين السياسي والثقافي
* المقالح الشاعر والأديب.. والمقالح السياسي اليمني العربي القومي.. والكاتب السياسي.. هناك فجوة واضحة.. لم هذه الفجوة؟ وهل هناك خصومة بين الثقافي والسياسي في نفسية الدكتور المقالح؟
- يتحدث سؤالكم عن فجوة لم أدرك معناها لأنني لا أراها، أو أتبينها في تجربتي الشعرية والحياتية.
أما إذا كان المقصود تلك الفجوة بين السياسي والثقافي عموماً، فهي إحدى معضلات الكتابة في زمننا، والتي يحاول الكُتَّاب في عصرنا تفاديها من خلال الموزانة بين متطلبات الفن والسياسية بمعناها اليومي والمتغير، وهذا ما حاولته فيما كتبت عن وطني وعن قضايا الأمة العربية عامة.
واقع عربي مهان
* عادة ما تطفو نبرة الحزن في إطلالة الدكتور المقالح وفي حضوره وقصائده.. لماذا؟
- من يستطيع من أبناء هذه الأمة المنكوبة أن لا يحزن وهو يرى دبابات الأعداء تجوب شوارع بعض عواصمنا العربية، أو وهو يرى على الشاشات أبناءنا وهم يصرعون في الشوارع وفي كل الأمكنة والأزمنة؛دون أن يحرك العالم ساكناً، أو يتنادى أصحاب الحل والعقد في الأمة إلى وقفة تصحو معها الضمائر وتتوحد القوة. وفي واقع عربي مهانٍ كهذا الواقع لا ألوم الشاعر إذ ما بكي بدمعهِ أو بكلماته، فذلك من أضعف الإيمان. وإذا كنت قد بكيت بدمعي واشتوت كلماتي بالأحزان؛ فإنني أعدك إذا ما تغيرت أوضاع الأمة أن تتحول هذه الدموع إلى ضحكات، والأحزان إلى أفراح.
كر وفر
* 17 عاماً من عمر اليمن الجديد.. كيف ترى المشهد الثقافي اليمني؟ أين تجلى؟ وأين اعتورته المتاعب؟
- لا أريد أن أبالغ في القول وأنطلق من موقف متشائم جداً فأدعي أن السياسي في هذه المرحلة قد استولى على الثقافي وألحقه بركابه، فما تزال هناك مساحة للكر والفر، كما أن الثقافي استطاع أن يقاوم، وأن يقدم الكثير في حقول الشعر والرواية والقصة القصيرة، وفي مجال الدراسات الأدبية والكتابات الفكرية.
ومعنى هذا أن الثقافي لم ينهزم تماماً، صحيح أن الواقع المحموم والمأزوم الذي رافق مرحلة بناء اليمن الواحد الجديد قد جعل كثيراً من المبدعين يتحولون إليه، أو ينشغلون به، إلاَّ أن كثيراً منهم أيضاً كانوا وما يزالون يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن يستكمل السياسي دائرة سيطرته على كل شيء في الساحة.
تأثير لا يقاوم
* إلى أي مدى أثر الحراك السياسي في الساحة اليمنية على المشهد الثقافي؟
- لعل في الإجابة السالفة ما يكفي.. وإذا كانت هناك من إضافة، فهي أن للسياسي تأثيراً لا يقاوم على الثقافي. وفي بلادنا كما في بقية الأقطار العربية الأخرى للسياسة بريقها وجاذبيتها، ويكاد سحرها بالنسبة لبعض المثقفين يشبه أضواء المصابيح، تلك التي تشد إليها الفراشات، لا لكي تنير لها الطريق وتستمع بجماليات الضوء، وإنما لكي تحترق فيه. وهنا أزعم أنني شخصياً قاومت الاقتراب من هذه الأضواء قدر ما استطعت، ولي في الساحة أمثال كثيرون ممن يتهيبون الوقوع في براثن التسيس بمعناه المباشر والضاغط.
المشهد الثقافي العربي
* المشهد الثقافي العربي.. لماذا تحول إلى ما يشبه (الماضيات) فأصابه الجمود والشلل؟
- لا غرابة في ذلك فالثقافي ما يزال للأسف الشديد انعكاساً للواقع السياسي وإشكالياته ومنها لا تنسى المستجدات المرعبة التي طرأت على الواقع العربي بعد (كامب ديفيد)، وما تلاه من انكسارات وانزلاقات، ومن تآمر خفي ومكشوف على روح ال أمة وقضاياها العادلة.
إن تلك الأسباب مجتمعة وراء ما تشهده من حالات الجمود والشلل في المشهد الثقافي العربي، والأخطر من كل ذلك التراجع الذي أفضى إلى هذا اليأس الإبداعي والمعرفي، وما تتركه هذه الحال من ظروف أن يجد المبدع العربي نفسه معها في حالة انسحاب وغير قادر على أن يعبر عن عواطفه وأفكاره تعبيراً وافياً.
ومع كل ذلك أعود فأقول إن الصورة ليست كلها مظلمة سوداء، فما تزال هناك جوانب مضيئة، ولا أتردد عن القول في أن جزءاً من هذه الأضواء تنبثق من الجزيرة والخليج.
نهاية غير موفقة
* في نظرك أين يقف الأدباء مما يعتمل اليوم في الساحة العربية؟ ولماذا غاب دورهم عن مجرى الأحداث؟
- لا يمكن رسم صورة واحدة للأدباء، أو النظر إليهم من منظور واحد.
وقد دفعت الأوضاع المعيشية السيئة للغالبية منهم إما إلى الصمت أو إلى الانسحاب، ودفعت عدداً قليلاً منهم إلى توظيف أقلامهم وأفكارهم لخدمة من يدفع، وهي نهاية غير موفقة مهما كانت مبرراتها.. وبين هؤلاء وهؤلاء تقف قامات مديدة تحاور وتقاوم وتصادم ترفض تحت كل المغريات أن تنتكس أو تستسلم، وفي هذه القامات النموذج تتجسد المواقف الصحيحة على المستويين الثقافي والسياسي.
نتائج كارثية
* الأدب شعراً ونثراً كان هو الشراع والدفة في حياة الأمة العربية في تحولات الفترة الممتدة من 1967م لكنه وبعد ذلك أي بعد انتكاسة العام 1967م، سقط الشراع وتماهت الدفة وأصبح يلهث في مؤخرة الأحداث.. لماذا؟
- لا تنسى أن الانتكاسة التي يشير إليها السؤال كانت قياسية جداً على روح الأمة، وأن أثرها المدمر ظل يحفر في وجدان الأمة وفي أعماق أفرادها المتميزين على مدى طويل، وكلما مر الزمن وحاولت الأمة الخروج من كابوس النكسة جاءت أحداث لتؤكد استمرارها وكارثية نتائجها.
وما غزو العراق وما تلاه من تحطيم لقوته الضاربة، ومن قتل وتهجير للعلماء العراقيين العرب إلا النموذج لما هدفت إليه النكسة، وما قادت إليه في ظل غياب عربي واعٍ مستنير، وفقدان لشعور تضامني صادق وخالٍ من الوساوس الإقليمية المتحجرة، تلك التي أجهضت كل المحاولات النبيلة والطيبة الهادفة إلى لأم الجرح الكبير، وترميم ما دمرته الأحداث المتلاحقة، تلك التي لم يعد في مقدور الشعر أو النثر متابعتها فضلاً عن تغيير مسارها.
انتشال الواقع العربي
* الواقع الثقافي العربي في عصرنا الراهن.. كيف يمكن انتشاله من حالة العزلة والخمول التي يعيشها؟
- بمزيد من الوعي والقبول بالآخر الذي هو أخي مهما تباعدت بنا الديار والأفكار، وبإدراك الأنظمة أن الثقافة هي الكلمة، وأنها في البدء كانت، ولا نهوض أو تقدم لشعب لم تقم فيه الآداب والفنون بدورها كاملاً..وفي وسط هذا الخضم من الصخب السياسي لا مكان للكلمة الواعية الهادئة التي من شأنها أن لا تنتشل الواقع الثقافي الراهن من عزلته وخموله وحسب، وإنما في مقدورها أن تنزع الوطن كله بل الأمة كلها من حمأة الهزيمة، وتعيد الجميع إلى المكان الصحيح بعيداً عن المخاوف والأوهام والبحث عن حلول عرجاء طالما تولدت عنها المشكلات والأزمات الحادة.
حافة الهاوية
* هل تعتقد أن السياسي في الوطن العربي هو من قاد المثقفين إلى مثل هذه الوضعية المتردية من الاحتقانات الذاتية؟
- هذا سؤال يحمل إجابته معه، وإذا كنت فيما سبق من إجابات قد ألمحت إلى جناية السياسي على الثقافي؛ فإنني هنا لا أرى ما يحول بيني والتأكيد على هذه الحقيقة التي يكاد يعرفها الجميع.. ولست بحاجة إلى براهين لإثبات خطرها، وما تركته على جسد الواقع العربي من جراحات وندوب لا تبرأ.
واسمح لي أخيراً أن أقول: إن السياسي العربي كاد يقود الأمة والتاريخ إلى حافة الهاوية لولا بقية من العقلاء والصامدين في وجه العواصف التي تهب على الصعيدين العربي والكوني.
بكائيات الشعراء
* بكائيات الشعراء العرب تجاه كل شيء في حياتنا العربية.. هل هي إدمان أم استسهال إيجاد المبرر لمتاعبنا؟
- ربما كانت هذا البكائيات هي الشيء الممكن في زمن المستحيلات، وإذا كانت عند البعض نوعاً من المبررات، فإنها عند آخرين تعبير صادق وعميق لما يشغل النفس ويؤرق الضمير. وأزعم أن للقارئ من حاسته السادسة قدرة على معرفة الصادق من هذه البكائيات والمكذوب منها.
الإبداع والأوراق
* يقال إن الإبداع العربي دخل مرحلة بيات شتوي لا حدود له بعد دخول الفضائيات.. ما صحة هذا الطرح؟
- ما من شك في أن الفضائيات لعبت وتلعب دوراً كبيراً في الإلهاء والاستقطاب والانصراف عن متابعة الإبداع المكتوب، وهو ما جعل بعض المبدعين ينسحبون عن الكتابة يأساً أو ظناً منهم بأن دور الكلمة المكتوبة قد انتهى. والبعض من المبدعين وجدها فرصة للتحول نحو كتابة المسلسلات، وهو ما ينبغي أن يكون، بالإضافة إلى أن الفضائيات قد تكون نوافذ واسعة لانطلاقة البرامج الثقافية الأدبية لو كان أصحابها يعلمون أهمية ذلك.
* هل هناك قصاصات من أوراق الدكتور المقالح يتردد في نشرها ويرى إرجاءها إلى وقت أكثر ملاءمة مما هو قائم؟
- نعم هناك الكثير من الكتابات التي لا ترى النور سيما في مجال الشعر، وإن كنت في الأيام الأخيرة قد بدأت انفض الغبار عنها وأعدّ بعضها للنشر، لكن يبدو أن على كل شاعر أن يئد بعض بنات وجدانه والعاطفيات والسياسات منها بخاصة لأسباب لا تحتاج إلى تفسير أو شرح.
* أي الكتب من قائمة نتاجك الفكري والثقافي أقرب إليك؟
- كلها بدون استثناء، فقد أخذت مني جهداً ووقتاً وصارت جزءاً مني ومن تاريخي الأدبي والفكري.
* لك تجربة في كتابة كلمات الأغاني.. هل أنت راضٍ عنها؟ ولماذا توقفت أو تراجعت عنها؟
- كلما تذكرت هذه المرحلة تذكرت معها بيتاً من الشعر للراحل الكبير جبران خليل جبران يقول فيه:
ذاك عهدٌ من حياتي قد مضى
بين تشبيب وشكوى ونواح
وهي كذلك تعبير عن تجربة تقودني أحياناً إلى تكرارها رغم أنفي، وما يسعدني فيها هو أن الفنان الكبير أحمد فتحي هو الذي يحرك أشجانها، ويستدعي بصوته العذب وألحانه الجميلة ذكرياتها.
سؤال اللحظة وكل لحظة
* (الموت) معطى إنساني وشعوري.. كان محور قصائدك.. لكنك مؤخراً انتصرت على تلك الرؤية.. هل هذا صحيح؟
- نعم هو سؤال اللحظة وكل لحظة، ومحور حياة البشرية منذ الميلاد وحتى الوفاة، وحضوره في الشعر تعبير طبيعي ونابع من حقيقة الموجود ذاته وليس من الخوف منه، أو محاولة لتجنب مواجهته.
علاقة ود طويلة
* قبل فترة من وفاة الشاعر البردوني جرت مساجلات ضمنية بينك وبينه.. لماذا؟
- لا أدري ماذا تقصد بالمساجلات الضمنية، لقد ربطتني بالشاعر الكبير عبدالله البردوني علاقة ود طويلة امتدت إلى أكثر من أربعين عاماً تخللتها حوارات ومواقف مودّة لم تغيرها الأيام، ولا استطاع الآخرون بما بذلوه من جهود حثيثة تكديرها.
البقاء للكتاب
* الكتاب والإنترنت.. لمن السيادة؟ وماذا عن رؤى المستقبل تجاه هذه الإشكالية؟
- البقاء للكتاب، وما هذه المخترعات الحديثة سوى هوامش على متنه الثابت والدائم، ولك أن تتابع أرقام الكتب والمجلات الصادرة كل يوم في الوطن العربي والعالم لكي تتبين ما يمتلكه الكتاب من القوة والقدرة على الانتشار والبقاء.
خطر العولمة
* العولمة والثقافة.. كيف يراها الدكتور المقالح؟
- هناك إجماع على الخطر الذي تمثله العولمة على ثقافة الشعوب التي تعاني من التخلف، وهناك من الإشارات الدالة ما يؤكد على أن عشرات اللغات سوف تنقرض نتيجة الهيمنة المفروضة من قبل هذا الخطر الداهم، وبالنسبة لنا نحن العرب ينبغي أن نتنبه أكثر فأكثر حتى لا يطوينا هذا القادم الجديد، ويؤثر سلبياً على مسار ثقافتنا وهويتنا.