أتمنى أن أرى مطبوعة شبابيّة لم تكتحل بحبر الدكتور عبدالعزيز المقالح، كي أبكي قليلاً نكران الأجيال!
هكذا يقول شابٌّ في هدأة الوقت، وهو يرى الشيخ يختطف قصب السبق من الشباب.
ما يعني أن الرجل ظلّ نصير الشباب والتجديد، لا تعتوره عوامل التعرية الثقافية التي تحول دون المزامنة، ومواكبة الإيقاعات المتجدّدة.
وفي كل قراءة فيما يكتب المقالح - من كُتُب، أومقدّمات أعمال، أو تعليقات- تلمس حِرْفِيّة مَن يستنطق النصوص بشاعريّة نقديّة، توظّف المعطى النصوصي لسبر آفاق المعطى المعرفي، الكامن وراء الظواهر، في لعبة ذكية، ترتفع بالقراءة إلى الأهم والأبقى من مجرد الترويج لنصّ، وإن كان الرجل مبشّرًا بارعًا بالجَمال، مدشّنًا عريقًا للتحديث الرصين.
يتقلب شاعرًا بين الحب والحرب، بفارق حرفٍ واحد! ولا غرابة من شاعر نشأ قُرب (وادي بنا)، الماء، والخضرة، ووجه اليَمن الشعريّ الحَسَن، وقُدّر له- إلى هذه البيئة الجماليّة- أن يعاصر كل النكبات الوطنية والثقافية العربية:
بكى فأورقتْ الأشجارَ أدمعُهُ
وأثمرتْ شجرَ الأحزانِ أضلعُهُ
النار تكتب في عينيه لوعتَهُ
ويحفر الشوقُ فيها ما يلوّعُهُ
ينام في عَدَنٍ في حُلْمِ يقظتهِ
وينثني وعلى الأشواكِ مضجعُهُ
ويشتكي لذمارٍ هَمَّ رحلتهِ
فتنكر الريحُ شكواه وتبلعُهُ
ولذا فإن سِجِلّ شعره وكتاباته حافل بشواهد على تلك الملامح اليمانية، ألَمًا وعروبة: (لا بدّ من صنعاء)، (مأرِب يتكلّم)، (عودة وضّاح اليَمن)؛ (الكتابة بسيف علي بن أبي الفضل)، (رسالة إلى سيف بن ذي يزن)، (هوامش يمانية على تغريبة ابن زُريق البغدادي)، (الخروج من دوائر الساعة السليمانية). مفردة (اليَمن) حاضرة دائمًا في عناوينه الشعريّة، ولا تفارق نصوصه.
في حين تزدوج الهويّةُ في كتاباته النقديّة والفكريّة، أو بالأصح تلتحم بعروبتها، تاريخًا ومكانًا: (أصوات من الزمن الجديد)، (أزمة القصيدة الجديدة)، (قراءات في الأدب والفنّ)، (الوجه الضائع: دراسات عن الأدب والطفل العربي)، (شعراء من اليَمن)، (الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليَمن)، (قراءة في أدب اليَمن المعاصر)، (الزبيري ضمير اليَمن الوطني والثقافيّ)، (يوميات يمانية في الأدب والفنّ)، (شعر العاميّة في اليَمن).
هو ذا المقالح..
.. هكذا يخرج من ساعته السليمانية متّشحًا باليَمن أصالةً ومعاصرة: الشاعر، والناقد، والأكاديمي.
بقيةٌ من أرباب الحداثة الأصيلة، ممّن اتّخذوا منهَجًا معتدلاً، لم يمتط موجات التطرف والإقصاء كغيره من الحداثيّين، الذين يستعيدون بيننا- باسم الحداثات- تشنّجات سحيم بن وثيل الرياحي: (متى يضع العمامة...)!
لم يكن كذلك المقالح، رغم التُّهم الجائرة من بعض مناوئيه؛ ذلك أنه بطبعه يحمل في داخله النُّبْل الإنساني، وبوعيه يعي هدفه الباني، لا المُقِيْم بنيانه على أنقاض الآخرين. وهو ما تجلّى منه في الحوار الأخير معه في برنامج (إضاءات) قناة (العربيّة). ومن هذا نهجه سوف يحظى باحترام خصومه؛ لأن بِذْرة النُّبل والعقل مغروسة في كل إنسان كبِذْرة الظُّلم والنَّزَق والتعصّب، والمُبدِع أو المفكّر أو المثقّف هو الذي يُسْهِم في استزراع إحدى البذرتين.
لذلك كله فإن المقالح - في تصوّري - يجسّد الشخصيّة الثقافيّة المفتقرة إليها بربريّاتنا، حيث لا تعدو الثقافة أحيانًا ثوبًا حديثًا يرتديه جاهليّ، سرعان ما يتعرّى للريح كأيّ صعلوك. بما أن الثقافة في جوهرها هي الإنسان، تربيةً ثقافيّة لا معرفة مجرّدة، بل إن غواية المعرفة بلا هداية التربية يمكن أن تغدو أخطر فتّاكة بصاحبها وبما حواليه.
- الرياض
aalfaify@yahoo.com