العالم والأديب الدكتور مصطفى محمود من أشهر التائهين الباحثين عن الأمان لروحه التائهة في هذا الكون المتلاطم بين المادية المتسلطة والروحانية الباحثة عن ملاذ آمن للنفس البشرية..
بداياته كانت قصصية روائية علمية اجتماعية سياسية دينية، فكان مثقفاً شمولياً بكل معنى الكلمة جرب وناقش وحاور وأفرز تجربة خاصة مع مؤلفاته التسعين، منها - لغز الموت، لغز الحياة، رأيت الله، السر الأعظم، الروح والجسد، رحلتي من الشك إلى اليقين.. من أشهر مؤلفاته التي وضعت حداً فاصلاً بين ماضيه ومستقبله مع أشهر برنامج على شاشات التلفزيونات العربية (العلم والإيمان) الذي حاز على أكبر نسبة مشاهدة في زمانه ولكافة الأعمار..
ساعده على ذلك سعة اطلاعه وعلمه وأسلوبه القصصي الرائع الهادئ فعشق جمهوره كلامه وأسلوبه الذي اخترق أعماق ذاتهم العاجزة عن فهم ذاتها أمام التيارات المتصارعة في إشكاليات إيديولوجية تموج بالمنطقة بدءاً بالفلسفة الوجودية ومروراً بالتيارات القومية وغيرها..
في خضم ذلك كان مصطفى محمود يقدم فكره وعبقريته للمجتمع العربي متعاملاً مع كافة الأطياف بالفكر والدليل العلميّ القاطع إلى الإيمان.. ممزقاً الصمت لينير الظلمات في سراديب النفس البشرية.. يتحدث عن حالنا مع المجهول، ينتقل بنا إلى الفناء الدنيوي عابراً إلى عالم الخلود الأبدي مبتعداً عن المغالاة في عالم الروح بقراءة علمية منطقية واضحة..
سلاسة حديثه مزجت أحاديثه بالعلم والأدب معاً مبتعداً عن الأمر والنهي باعثاً فينا الشعور بالقناعة والاطمئنان..
لغة معاصرة أنيقة مشبعة برؤية علمية عميقة، مع شيء من التصوّف وطرق تشريح النفس البشرية.. لكنه لم يكن صوفياً مغالياً من أصحاب الشطحات، فقد كان همّه تهذيب الروح ومحبة الله عن علم ويقين، والمجاهدة بأسلوب فكري يتمايل مع النفس البشرية في انحناءاتها بقوتها وضعفها واستكانتها وجبروتها..
مع ذلك كله لم يكن خطيباً منبرياً واعظاً بأسلوبه، لكنه بكل تأكيد كان له منبره الخاص وجمهوره الأوسع عبر مؤلفاته وبرنامجه الذي قدم من خلاله لغة جديدة وفكراً مزج بين التصوف الروحي والتصوف العلمي.. وقد يكون ذلك من الأسباب الرئيسية التي جعلته معتزلاً بعيداً عن الجو الأسري غير قادر على تشكيل أسرة مادية، متفرغاً لعلمه وأدبه مانحاً جمهوره كل جهده ووقته..
ولابد من ذكر ذلك بصريح العبارة، أن مؤلفات د. مصطفى محمود كانت مستقلة استقلالاً تاماً فالمؤلف الواحد كان فكرة كاملة لا تتجزأ ولا تعرف التكرار.. تعالج مسألة واحدة لدرجة الإشباع.
د. مصطفى محمود عبقرية فذة - وشاملة - من عبقريات الفكر العربي، أعطت الكثير ونالت محبة وثقة المتلقين وطيب دعائهم.. سيطر د. مصطفى محمود على الشاشة الفضية بكل جدارة وثقة، ولكن للأسف بقي جهده جهداً فردياً يفتقر للعمل المؤسساتي شأنه شأن معظم المبدعين الحقيقيين في عالمنا العربي.. وهذا من أهم أسرار مراوحتنا في مكاننا..
أسأل الله العليّ القدير أن يجعل ما قدمه الدكتور مصطفى محمود، خلال مسيرته الطويلة.. في ميزان حسناته.
* قاص سوري مقيم في الرياض