هكذا عرفته منذ نعومة أظفاري.. لقاء العلم بالقرآن - بالصوت والصورة.. لم أزل أذكر نظراته المفكرة.. السارحة الشاردة.. وكأنه يعيش هو أولاً في محراب العلم... ثم يرى بطريقته في رويةٍ وإدهاش: كيف يرتبط القرآن بحقائق الحق.. والشاهد على ذلك الطب والطبيعة.. كلها تندمج.. في سطور.. وذهول.. وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد الأحد..
ذلك كان أصل بادرة منهجه في التلفاز.. وليس في التلفاز فحسب.. بل في كل ما قرأته من كتبه.. ولكل من كان يريد علماً ونوراً وإيماناً.. يطل الدكتور مصطفى محمود بعلمه وفكره إطلالة المعلم، وفي عينيه ننظر إطلالة الإيمان.. ولا تنس مقدمه في مرحلةٍ من حياته الحافلة- بعد رحلة الشك.. ولقد كانت رحلة الشك إلى قمم اليقين.. يجمع في ذلك ريعان التواضع، وخشوع السكون، والنظرة العميقة الطويلة من الآفاق. وكأنه يستلهم أموراً أخرى.. بعد أن عاش اليقين.. فألف السكينة والاطمئنان.. والعلم والإيمان.. مصطفى محمود أول عملاق يظهر على الشاشة.. يفسر الإعجاز العلمي في القرآن.. تسعفه الآيات وتتسابق إليه العبر والعبرات.. لم أكن أعلم وأنا في تلك السن -ربما السادسة عشرة أو أقل- أنه كان يعيش في عوالم البحار.. ليتعايش مع مخلوقات الله.. تحت الماء.. وبين البحرين يلتقيان.. ثم يخرج إلى البر فيعايش سكان الأرض.. كأنه ليس منهم.. فيعلمهم آيات الله في كونه، ويعلمهم آيات الله في خلقه.. في محاولات عبقرية لفهم عصريّ.
لقد كان يؤمن أن كتاب الله.. لم يزل كتاب المسلمين المعجزة.. الباقية الخالدة على مر العصور والأجيال بعد ألف وأربعمائة عام من نزوله.. وكأنه لم يزل يقطر سلسلاً من سلسل.. ليتحدث عن علوم اليوم.. وشواغل اليوم وأسرار اليوم.. بل وحروب اليوم وصراع اليوم كذلك.
وبين دفتيه يبحر كل شغوف بعلوم الفلك والطبيعة والجيولوجيا والطب والتشريح والحياة، بلمحات من شتى العلوم وبالجديد في علوم الباطن والنفس والروح وما وراء الطبيعة والمكان والمادة.. وبالجديد المبهر في الأخلاق والدستور والشرائع.. وكل الأديان. وكان بين هؤلاء جميعاً يشتغل الدكتور مصطفى محمود.. يجوب بحاراً ويعبر أنهاراً وقفاراً ينشد مكانه بينها جميعاً وكأنه خلق ليعيش في رحاب الخالق الأعظم.. حول الكون والعلم والإيمان.. كان يبحث عن (أحد عشر كوباً..) وينقب حول عظام الإنسان (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه..) ويتفكر تارة في أمر الحديد (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد..) ليتكلم عن النجوم المستعرة شديدة الحرارة -تسمى: السوبر نوفا- ليبين أن الحديد الذي يعرف بصلابته جاء إذن بحقن سماوي للخام الأصلي في باطن الأرض.. وبفعل سماوي فوقيّ للنجوم المستعرة وبتعدين إلهي.. فهو مصنوع بإرادة ربانية وعناية خاصة حتى يكتسب هذه الصلابة الفائقة لتكون فيما بعد دبابات ومجنزرات وسيوفاً وأسلحة قتالية فتاكة.. ولماذا حدث هذا التركيب والتدبير؟
ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إنه الامتحان لإيمان المؤمن وصلابته وثباته في الحروب التي فرضت عليه ضد أعداء الله.
ذلك حين أبحر مصطفى محمود مع القرآن، في رحلة تبدأ ولا تنتهي.. ولقد أخذها على مهل وخطاها خطوة خطوة من البداية.. من أول لقاء مع الحروف القرآنية وهي تقرع سمعه وتستقر في وجدانه.. وتنداح في قلبه لتؤلف في النهاية ذلك الإحساس العامر بالجلال والجمال والرهبة، وبأن هذا الكلام لا يأتي إلا من فوق سمع سموات. ونحن قبل أن نختم القول.. دائماً مع مصطفى محمود.. على الدرب.. بنور العلم والإيمان، حفظ الله عليه عافيته وأمده بروح من عنده.. ذلك الرائد الذي لا ينسى.. رائد العلم والإيمان على مر الزمان.
* معد ومقدم برنامج (الطريق إلى الله) -الرياض