حين اتصل بي الأستاذ فيصل أكرم للمشاركة بكلمة في هذا الملف الخاص بالدكتور مصطفى محمود، شفاه الله وأطال عمره وأسعده وهنّاه، لم أستطع أن أمنع نفسي من الحزن بسبب طبيعتنا غير المتحضرة القائمة على إهمال العلماء والمفكرين وكل من ينفعنا من كبار الرجال، وإن كنت لا أبالي أن يحدث هذا لي عندما يحين دوري، ولسوف يحدث بكل يقين، مع فرق هام هو أنني لم أكن في يوم من الأيام مشهوراً شهرة الدكتور مصطفى محمود. إلا إنني قد دعوت الله منذ وقت بعيد أن يصرف عني الرغبة في الشهرة أو انتظار المكافأة على ما أفعل من أحد من البشر، وهو دعاء أحس أن الله تعالى جَدُّه قد استجابه لي. وهذه منة عظيمة لولا هي لكانت حياة الإنسان مرة مرارة لا تطاق. فالحمد لله. إلا أن لموقفي من حالة الدكتور مصطفى محمود وضعاً آخر.
ولقد فكرت في طبيعة الكلمة التي أُسْهِم بها في الملف المذكور، واحترت لمدة يومين، وأنا لا أدرى ماذا أصنع... إلى أن انفرجت الحيرة بُعَيْد مغرب الجمعة الثامن من جمادى الآخرة لعام 1429هـ الموافق للثاني عشر من يونيه من عام 2008م، إذ برقت خاطرة في ذهني وأنا أتوضأ للصلاة مؤداها أن أنظر في بعض أحداث حياة كاتبنا اللافتة للنظر ثم أحاول استلهام الدروس منها، فوجدت نفسي بعد الانتهاء من الفريضة أتجه إلى الكاتوب وأجلس إليه وأبدأ الرقن، فكانت تلك الكلمة التي انتهيت منها في شوط واحد تقريباً لم أقطعه إلا لأداء بعض الأمور البسيطة.
والآن إلى بعض ما شدنى في حياة الدكتور مصطفى محمود: لقد لفتني بقوة في حياة الرجل ذلك التبرع الذي قدمه له أحد رجال الأعمال في صورة (صَكّ على بَيَاض) كما يقولون كي ينفق منه على إعداد حلقات برنامجه الشهير: (العلم والإيمان). وكان التلفاز المصري قد قرر لكل حلقة مبلغ ثلاثين جنيهاً لا غير، في الوقت الذي تتكلف فيه الحلقة أضعاف أضعاف ذلك المبلغ، مما وقف الدكتور مصطفى أمامه حائراً يائساً لا يدري ماذا يصنع، فجاءت مبادرة رجل الأعمال الشهم الكريم لتنقذ الموقف. والحق أن ذلك الشخص الذي تحمل كل تلك النفقات الطائلة هو عندي أفضل ممن يبني مسجداً مثلاً، إذ إننا لا نشكو، والحمد لله، من قلة المساجد في بلادنا، بل من انتشار الجهل وعدم اهتمام الأغنياء بنشر الثقافة والعمل على إيصالها لمن يحتاجها ولا يستطيع القيام بنفقاتها. وأنا أنتهز هذه الفرصة وأدعو أغنياء العرب والمسلمين إلى تبني هذا المشروع، مشروع نشر الثقافة بين جماهير المسلمين المغيبة العقل، تاركاً لهم الاستعانة بالمختصين كي يرسموا لهم الطرق الموصلة إلى هذا الهدف، وإن كان من الممكن أن أشير هنا إلى ما أكرره دائماً من أن معظم أغنيائنا للأسف (وكذلك الحال مع الفقراء وأوساط الناس أيضاً حتى لا يغضب أحد) لا يفكرون أبداً في شراء كتاب ولا في قراءته. ورأيي أنهم إذا كانوا لا يقرؤون ولا يريدون أن يقرؤوا، وهذا بلا أدنى ريب عيب، وعيب قبيح، فلا ينبغى لهم أبداً أن يضيفوا إلى هذا العيب القبيح عيباً آخر، وهو عدم تشجيع من يريد القراءة ولكنه يعجز عن تدبير المال اللازم لها، وكذلك عدم تشجيع المؤلفين، الذين يستطيعون أن يكتبوا ويبدعوا ويخدموا أمتهم ودينهم وشعوبهم، إلا أنهم تنقصهم نفقات طبع الكتب التي يؤلفونها فيتوقفون يائسين مكروبين، على حين يستطيع الأغنياء أن يتقربوا إلى الله بشراء مثل هذه الكتب وإهدائها حسبةً إلى القارئين غير القادرين فينفعوا بذلك الطرفين: المؤلفين والقارئين على السواء، ويكسبوا بذلك أجرين لا أجراً واحداً، والله يضاعف لمن يشاء.
وأنا من هذا المنبر أرفع يدي إلى السماء وأبتهل إلى الله أن يكرم ذلك الغني الذي قدم الصك المفتوح إلى الدكتور مصطفى وقال له: أنفق على حلقاتك كل ما يحتاجه هذا المشروع، ولا تشغل بالك من هذه الناحية، وأدعوه سبحانه أن يكتب له الفردوس الأعلى. فهذا الرجل هو مثال للمسلم الغني المتحضر الذي يفهم الإسلام فهماً عميقاً ولا يكتفي بذلك بل يطبق هذا الفهم أحسن تطبيق. اللهم آمين. أما التلفاز المصري الذي أوقف إذاعة تلك الحلقات بعد أن نجحت نجاحاً هائلاً واستولت على ألباب المشاهدين، وكانوا يجنون منها شهداً علمياً صافياً، فليس له عندي إلا أن أقول: أنت بهذه الطريقة لا ترحم ولا تترك رحمة ربنا تنزل. وهنيئاً لك اهتمامك بالتفاهات والمضار الكثيرة التي أفسدت عقول الناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، وإن لم تكن أنت وحدك الذي تصنع هذا، بل كل التلفازات العربية تفعل نفس الشيء. (روحوا، منكم لله!)
ومما له دلالته هنا أن د. مصطفى محمود قد جمع بين الخيرين: العبادة والعلم، إذ بنى من أموال أهل الخير والصلاح مسجداً، وألحق به أربعة مراصد ومتحفاً تلقى فيه المحاضرات العلمية، ثم زاد فأنشأ مستشفى لمعالجة المرضى بأجر رمزي. ولو أنه أضاف إلى هذا تشجيع الكتاب المبتدئين الذين يُشَام منهم الخير، من خلال طبع ما يؤلفون من كتب ودراسات في المجالات التي لا تجد من يقبل عليها من الباحثين والعلماء، لكان قد بلغ سماء عالية من سماوات الخير والنفع الجزيل، وبخاصة أن هذا العمل لو تم لاجتذب الانتباه وحذا حذوه كثير من الناس. ومع هذا فيحمد له ما فعل، وعلى غيره أن يواصل الطريق ويكمل المشروع.
أقول هذا لأن للعلم والثقافة في الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة حتى لقد فضل الرسول الكريم العلماء على العابدين تفضيلاً كبيراً، وأكد صلوات الله عليه أن سبيل العلم توصل صاحبها إلى الجنة. كذلك فالله سبحانه وتعالى لم يأمر رسوله بالاستزادة من شيء سوى العلم: (وقل: رب، زدني علما)، وبيَّن عز شأنه أنه لا يمكن أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ومع هذا فإن المسلمين، في هذه الفترة التاعسة البائسة من تاريخهم، يبغضون القراءة وأمور الفكر والثقافة، رغم أن الإسلام لا يصلح دون علم، إذ هو عنصر جوهري في بنائه لا يتم إلا به، فضلاً عن أنه لا مستقبل للمسلمين إلا بالعلم والثقافة مهما ظن العوام والقاصرون منهم خلاف ذلك.
ومما لفت نظري أيضاً بقوة في حياة الدكتور مصطفى محمود ما قرأته من أن الرئيس السادات قد طلبه ذات يوم ليكلفه بمهام وزارة من الوزارات ، بَيْدَ أنه اعتذر قائلاً: لقد فشلت في إدارة أصغر مؤسسة ، وهي مؤسسة الزواج ، فقد تزوجت وطلقت مرتين ، فكيف أستطيع أن أنهض بأعباء وزارة؟ وفوق ذلك فإني أرفض ممارسة السلطة بكل أشكالها. ولأني أنا مثله لا أحب الأعمال الإدارية فقد أحببت هذا الموقف منه حباً عظيماً. وإني لأستغرب تهافت كثير من المفكرين وأساتذة الجامعة على أن يتولَّوْا منصباً وزارياً، مع أن مكانة المفكر والمبدع والأستاذ الجامعي لا يعادلها، في رأيي، أي منصب وزاري مهما علا شأنه، وبخاصة أن الوزراء في بلادنا لا قيمة لهم في كثير من الأحيان ولا يتمتعون بأية حرية، وأنا دائماً ما أقارن بين رجلين في العصر العباسي: أحدهما هو الجاحظ الأديب المفكر المبدع العظيم الذي عُيِّنَ كاتباً في ديوان الخليفة العباسي المأمون بن الرشيد فتردد عليه لمدة ثلاثة أيام، ثم لم يطق الاستمرار بعد ذلك فاستعفى فأُعْفي. والثاني هو سهل بن هارون، الذي كان يتولى شؤون بيت الحكمة في عهد المأمون أيضاً، وهي مؤسسة تشبه هيئة الكتاب المصرية الآن. ومن كلام سهل في هذا الموضوع أن الجاحظ لو كان بقي في الديوان لأفل نجم الكتاب جميعاً. ومع هذا فقد رفض الجاحظ الاستمرار في ذلك العمل الإداري لما فيه من تضييق على حريته. ورغم أن سهلا لم يكن شخصاً عاديًّا ولا كان الإداريون بوجه عام في ذلك العصر أشخاصاً عاديّين، بل كان كثير منهم من كبار المثقفين، كما كان عدد غير قليل منهم كتاباً وأدباء يشار لهم بالبنان، فإن أعباء العمل الإداري لم تترك له من الفراغ وروقان البال ما كان يتمتع به الجاحظ. وهذا سبب من الأسباب التي تكمن وراء الفرق الهائل بين ما خلّفه الجاحظ وما خلّفه سهل من الإبداعات كمًّا وكيفاً. وأنا أؤثر الجاحظ على سهل إيثاراً شديداً لهذا، ويكفيني أنه قد أمتع ويمتع وسيظل يمتع العقول الكبيرة والأذواق الراقية على مدى الدهور إلى يوم يبعثون، ويأخذ بأيديهم إلى الأعالي. وهذا عندي أفضل وأعظم وأكرم من وزارات الدنيا جميعاً.
لفتني كذلك في أمر الدكتور مصطفى أنه كان في بداية حياته الفكرية شاكًّا، وبعضهم يقول: بل كان ملحداً. ورغم أني لم أمر بمثل تلك الفترة في مسيرة حياتي، وإن كنت أتوقف بين الحين والحين لأقلب الفكر فيما أؤمن به، وأفعل ذلك دون خوف أو تحرج، ودائماً ما أخرج من المعاودة أقوى اعتقاداً وأعمق فهماً وأصلب موقفاً وأبصر بأبعاد جديدة في أمور الحياة والدين والإيمان، فإني لا أجد شيئاً في أن يشك الإنسان، لكن المهم أن يكون الشك نابعاً من داخله هو لا تقليداً لأحد آخر. فكثير من الملاحدة بين المسلمين الحاليين ليسوا ملاحدة عن اقتناع وتفكير بل عن تقليد لما يَرَوْنَه في الغرب أو بين زملاء لهم يخشون أن يخالفوا لهم عن أمر. وكنت أعرف في شبابي بعض هؤلاء، كما كان معنا من طلاب الجامعة من ألحدوا لحساب الشيوعية والاتحاد السوفيتي، ثم فوجئنا بهم ينقلبون على وجوههم مع انقلاب الأحوال في بلادنا وييممون وجوههم وعقولهم شطر العم سام، مع احتفاظهم بإلحادهم القديم بعد إعطائه نكهة ورائحة أمريكية، ولله في خلقه شؤون. وعلى أية حال فالفيصل بين شك وشك هو الفيصل بين شخص يريد بلوغ بر اليقين والاطمئنان الروحي وبين شخص يستزيد من الكفر ويوغل فيه؛ لأن هذا الكفر يطلق له الحبل على الغارب فيصنع ما يشاء ويجري وراء شهواته وانحرافاته وشذوذاته ملء عنانه دون رقيب ودون تفكير في حساب أو عقاب. ومصطفى محمود لم يترك الشك يغتال عقله، بل ظل يفكر ويعاود النظر والتأمل حتى هُدِيَ إلى الإيمان وسجل هذه التجربة الغنية في كتاب من أهم كتبه، بل من أهم الكتب في ميدانه، وهو (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، الذي قرأناه له بعد صدوره بقليل واستمتعنا بقراءته ورأينا الحرب التي أُعْلِنَتْ عليه من رفاق الأمس الذين ساءهم أن يهتدي واحد منهم من ضلاله القديم. بالضبط مثلما استاء رفقاء الدكتور محمد حسين هيكل الذين كانوا يسيرون معه على نفس درب الإعجاب بالغرب والتبعية له والثقة به عندما ألف كتابه في سيرة المصطفى، واجداً نفسه بعد الضياع الذي ضاعه أيام بعثته إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتورية في الاقتصاد السياسي والذي سجل بداياته بكثير من التفصيل في كتابه: (مذكرات الشباب)، ذلك المخطوط الذي ظل حبيس الظلام أكثر من ثمانين عاماً ورأى نور النشر لأول مرة في منتصف تسعينات القرن الماضي وتناولتُه بالدراسة التحليلية في فصل كامل من كتابي عن (الدكتور هيكل ناقداً وأديباً ومفكراً إسلامياً).
كذلك قرأت ذات مرة في إحدى الصحف تحت عنوان: (عاش طويلاً في التابوت) أن الدكتور مصطفى محمود كان، قبل أن يداهمه المرض الحالي، يقيم معظم الوقت في غرفة فوق مسجده يسميها: (التابوت)، وأن الموت لم يكن يبارح مخيلته. وسبب التفاتي إلى هذه المعلومة أنني أنا أيضاً دائم التفكر في الموت منذ أعوام غير قليلة لا يكاد يغيب عن بالي، بعد أن كنت أفزع من فكرته.. مع أني كنت ولا أزال قوي الإيمان بالله وباليوم الآخر، لكن ماذا يستطيع الواحد منا أن يعمله أمام مثل تلك المشاعر؟ إلا أن الأمر انقلب تماماً منذ مدة ليست بالقريبة وأضحيت أتكلم عن الموت وما أرجوه من كرم المولى الرحيم عز شأنه كما أتكلم عن رحلة أنوي القيام بها. والطريف أن كل من يسمعني أتحدث عن موتي يسارع بالرد قائلاً: بعد الشر! فأقول: أوتظن يا فلان أن كلامي هذا سوف يقرّب الموت مني أسرع مما قدر الله لي منذ الأزل؟ لكن الناس يتشاءمون عموماً بالحديث عن الموت، وكأن الموت رجل نائم، ومن شأن الكلام عنه أن يوقظه من غفوته!
وبالمناسبة كان عليّ منذ يومين أن أعمل أشعة بجهاز الرنين المغناطيسي على رقبتي، التي تبين بحمد الله أنه ليس فيها إلا بعض الخشونة، وهو أمر عادي تماماً في مثل سني. وفي البداية لم أكن مرتاحاً إلى الدخول في الجهاز الذي أشبّهه ضاحكاً بكبسولة الفضاء مما أضحك الطبيبة صاحبة اقتراح الأشعة. ثم توكلت على الله وتركت الممرضة تدفعني إلى داخل الأنبوب بعد أن أغمضت عيني وشرعت أركز تفكيري كله في ربي سبحانه وتعالى، وظللت أجري حواراً طوال الوقت من جانبي أقرأ فيه الآيات القرآنية التي تتحدث عن يونس وهو في بطن الحوت فأجد لذة غريبة. ولم أعد أشعر بأني محصور ولا مقيد، بل كنت أتخيل أن سقف الأنبوب هو نفسه سقف الغرفة. وأحسست أنني قريب من الله تمام القرب، وكنت أسأل نفسي وأنا ممدد هناك: ماذا لو حدث شيء أدى إلى موتك وأنت بداخل هذا الأنبوب؟ فأجبت قائلاً: وماذا في ذلك؟ وهل أنا استثناء من البشر؟ فسكنتْ نفسي عندئذ أيما سكينة. وكانت تجربة روحية عميقة خرجت منها في منتهى السعادة.
هذا، ولا يصح أن يفوتني التنويه بأن الدكتور مصطفى، شفاه الله، قد نشأ في طنطا قريباً من مسجد السيد البدوي وهو المسجد الذي كنت أتردد عليه بعد انتهاء اليوم الدراسي في المرحلة الإعدادية، وأصلي الأوقات كلها مع المصلين، أي أننا نشأنا في نفس الجو تقريباً، وإن كان هو أكبر مني بسبعة وعشرين عاماً. وهذا مما يشعرني الآن بأن كلينا قريب من الآخر، وهو ما أضفى على هذه الكلمة شيئاً من الدفء والحميمية، إلى جانب ما أعادني به الأستاذ فيصل أكرم عن الدكتور مصطفى محمود لافتاً نظري إلى أن من حق الرجل أن يشعر بنا حوله في ظروفه الحالية، فخلق عندي بهذا الطلب إحساساً بالقرب من العالم الجليل قبل أن أتذكر أنه قد نشأ كما نشأت في طنطا، تلك المدينة التي تلقيت فيها تعليمي في أثناء المرحلتين الإعدادية والثانوية والتي لي فيها كثير من الذكريات والأفراح والأشجان، وكنت أحلم بها في أكسفورد وأنا متغرب أدرس للحصول على درجة الدكتورية في النقد الأدبي في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
ولا يفوتني أن أشرح للقارئ أنه لم تكن لي صلة مباشرة بالدكتور مصطفى في أي وقت، بل تقتصر معرفتي به عن طريق كتبه ومقالاته وبرنامجه (العلم والإيمان). ومع هذا فقد أرسلت له ذات يوم من عام 1984م أستسمحه في نقل ما كان قد كتبه في بعض مؤلفاته عن النتائج التي توصل إليها رشاد خليفة بخصوص الرقم 19 في القرآن الكريم ودلالته على إعجازه ومصدره الإلهي. وكنت أيامها حديث عهد بالعودة من بريطانيا، ولا أزال أتذكر التحقيق الذي كنت قرأته قبل سفري إليها في أواسط السبعينات من القرن المنصرم عن ذلك الموضوع. فعندما أردت آنئذ أن أصدر كتابي: (المستشرقون والقرآن) خطر لي أن ألحق به الفصل الذي كتبه الدكتور مصطفى محمود في تلك القضية، فكتبت له رسالة بذلك وبعثت بها طالباً من طلابي الذين يعرفون مسجده ويترددون عليه للصلاة فيه، فوافق الرجل بخط يده مشكوراً، ونشرت الفصل المذكور في آخر الطبعة الأولى من ذلك الكتاب. إلا أن الطلاب سرعان ما نبهوني مشكورين إلى ما كنت أجهله جَرّاء غيبتي عن البلاد طوال ست سنين في بلاد جون بول، وهو أن عدداً من العلماء والباحثين قد ردوا على ما قاله رشاد خليفة وبينوا أنه لا يصمد أمام البحث العلمي، فطلبت منهم أن يوافوني بذلك فأحضروا بعض تلك الردود، فقرأتها لأجد نفسي وقد حاكت فيها أشياء بعد أن كنت مطمئناً إلى ما قرأته عن ذلك الموضوع من قبل. ولهذا يجدني القارئ قد حذفت هذا الملحق من كتاب السابق ذكره في طبعته الثانية.
وفي النهاية أحب أن أقول إنني لا أتفق مع كل ما كتبه الدكتور مصطفى محمود أيضاً، وهذا أمر طبيعي، فليس هناك كاتب أو مفكر يتفق معه جميع الناس في كل ما كتب، بل الطبيعي أن يكون هناك ولو بعض الاختلاف في الآراء والأفكار ووجهات النظر. ومن ذلك مثلاً ما كتبه عن (الشفاعة).. وهناك أمثلة أخرى نكتفي عنها بهذا المثال لأن السياق ليس سياق اختلاف بقدر ما هو سياق تعاطف وتشارك وجداني، فكلنا نستقل زورقاً واحداً في بحر الحياة اللجيّ المتلاطم، والزمن دوار، ولسوف يسعدنا إذا ما قُدِّر لنا الوقوع تحت وطأة التعب أن نجد الآخرين يهتمون بنا ويظهرون مشاعرهم الطيبة نحونا. ولقد قلت ذات مرة في رسالة بعثت بها من الطائف إلى الدكتور صفاء خلوصي حملها له الدكتور يوسف عز الدين حين سافر في أحد الأصياف من تسعينات القرن الماضي إلى بريطانيا حيث كان يعيش الدكتور خلوصي، الذي بلغني وقتها أنه مريض: لو كانت لي دعوة مستجابة عند الله لرجوته عز شأنه أن يمحو المرض بكل أنواعه من قاموس الحياة!
شفى الله الدكتور مصطفى محمود وأسعده. اللهم آمين.
* كاتب ومفكر إسلامي
أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس