لو أنكَ جالسٌ في كابينة قطار. ترقبُ العالم المتسارعَ من النافذة، وتفكر أن سيدةً جميلةً كانت تجلس مثلك في عربة قطار، قبل ثمانين عاما، متجهةً من لندن إلى الجزء الجنوب - شرقي من الريف الإنجليزيّ، فألهمها وجههٌ حزينٌ لامرأة كانت تجلسُ قبالتها، لتكتب روايةً من أبدع القصص اسمها (روايةٌ لم تُكتب بعد)، حيث سرُّ جمالها في عدم اكتمالها. فبقيت روايةً ناقصةً دون ذروة درامية ودون نهاية محكمة. مثلها مثل معظم أعمال فرجينيا وولف التي نقصُها اكتمالٌ وجمال.
تلاحظُ الآن أن بعوضةً تقف على زجاج النافذة المغلقة من الداخل. تهشها بيدكَ فتطير. طبعا سرعةُ القطار أكبر من سرعة البعوضة لذلك لا بد أن تتراجع البعوضة حتى تصطدم بالحائط الخلفي لكابينة القطار فتموت في الحال. لكن الذي يحدث أن البعوضة تظل عالقةً في هواء الكابينة ساكنةً أو طائرةً فيما القطار يجري! جننتني هذه المسألة! وسألت معلمي الفيزياء والرياضيات في مدرستي. بعضهم انشغل عني لتفاهة السؤال وبعضهم أجابني بما لم يقنعني. علمنا آينشتين في نظرية النسبية أن الزمنَ بُعدٌ رابعٌ للمكان، إضافةً للطول والعرض والعمق. ومن ثم فلكي تحتفظَ البعوضةُ بمكانها في قطار سريع فلابد أن تطير بسرعة= سرعتها+ سرعة القطار. وهذا غير منطقيّ بالنسبة لحجم وقدرات بعوضة صغيرة. وظللت أبحثُ عن الشخص الوحيد القادر على إجابتي. ليس آينشتين لأنه مات من زمان. لكن د. مصطفى محمود. حينما درسنا النسبية أخبرنا معلمونا أنها أعقد نظرية عرفها التاريخ حتى الآن. لأن فرضياتها وتجلّياتها تحطّمُ كلَّ ما سبقها من نظريات الحركة والكتلة والطاقة والسرعة وطبعا هندسة إقليدس الكلاسيكية بل أيضاً قوانين نيوتُن التي أذهلت العالم وقتها. عقلُ الفلاح البسيط انسجم مع هندسة إقليدس دون مدرسة ولا كتاب لأنه يعرف كيف يخطط حقلَه بالطباشير وتعلّم أن مساحة المثلث تساوي نصف طول قاعدته في الارتفاع، ومساحة المربع تساوي الطول في العرض، لكن العقل البشري غير قادر على استيعاب ألا خطَّ مستقيماً في الكون كلّه، وأن كل خط ترسمه على الأرض هو منحنٍ بالضرورة مادامت الكرة الأرضية كروية، ومن ثم فكل حسابات إقليدس خطأٌ في خطأ في خطأ. كيف نصدق مثلاً أن كتلة الجسم تزيد كلما زادت سرعته؟ حتى إذا بلغت سرعتُه الحدَّ الأقصى المعروف، أي سرعة الضوء، صارت كتلته لا نهائية ومن ثم يصير قصوره الذاتي لا نهائياً فيتوقف! ولأن لا شيءَ في الكون ساكنٌ، فمستحيل أن تقترب سرعةٌ ما من سرعة الضوء. لو سار إنسانٌ ما بسرعة الضوء، جدلا، فسوف تؤخر ساعته حتى تتوقف تماما ويختفي الزمن ليدخل هذا الإنسان في الأبدية! أما لو فاقت سرعتُه سرعةَ الضوء (300 ألف كم- ث) فسوف يخترق حاجز الزمن ويعود للماضي! كل هذه الفرضيات لا عقلَ بشريًّا يقدر أن يتصورها، لكن معادلات آينشتين حسمتها بكل دقة.
لم يبسِّط أحدٌ نظريتيْ النسبية مثلما فعل مصطفى محمود الفذ في كتاباته وفي شروحه. فإن كان الفضل في فهم أرسطو يعود لشارحه الأكبر ابن رشد، فعندي أن هذا الرجال هو الشارح الأعظم لآينشتين، على الأقل لعقول غير دارسي الرياضيات والفيزياء. شرح النظريتين على نحو بالغ الرهافة بأمثلة بسيطة غير نخبوية فجعل أشد المعادلات تعقيداً وتركيباً يسيرة يمكن تصورها عن طريق إعمال بعض الخيال وتنشيط هدم الثوابت من أجل اختراق حائط العادة الذي يغلّق المتاريس أمام جموح خيالنا.
وبحثتُ طويلاً عن مصطفى محمود لأسأله سؤال البعوضة والقطار. لكنني لما التقيته مصادفةً أمام ماسبيرو قبل عشرين عاما لم أسأله، ليس فقط لأنني عرفت الإجابة، لكن لأن بهجتي برؤيته أربكتني فلم أقدر حتى أن أقول له: كم أحبك، وكم أمتنُّ لك! شفاكَ الله وعافاك أيها الكبير الجميل.
* شاعرة ومترجمة - القاهرة