الزلزال.. لم يكن أمراً سهلاً أن أستوعب في تلك المرحلة المبكرة من حياتي - حيث كنت في الثالثة عشرة من عمري - تلك المسرحية الخطيرة (الزلزال) للدكتور مصطفي محمود ومع ذلك صمدت وقرأتها لتتفتح أمامي أشياء كثيرة زرعت بداخلي بذور الأدب والثقافة والإبداع.. وامتدت يدي بعد ذلك إلى عشرات الأعمال للدكتور مصطفي محمود مثل الخروج من التابوت، لغز الحياة، العنكبوت، الوجود والعدم...
فاكتشفت في كتابات الدكتور مصطفي محمود أن الشك وسيلة للوصول إلى اليقين وهو نفس المنهج الذي اتبعه ديكارت والشك عند مصطفى محمود لم يكن بسبب إنكار أو عناد أوكفر وإنما هو تأكيد للعقيدة الراسخة بداخله..
والدكتور مصطفي محمود... مفكر. وكاتب مرموق. معروف بالعقلانية الشاملة، والموضوعية المتناهية، ومشهود له عند القراء والمستمعين بتعبيره الساحر، وتأثيره الأخاذ!!... إنه أحد الذين أثروا الساحة الثقافية والحياة الفكرية بعلمه الواسع، ونتاجه المتنوع ما بين القصة والرواية والمسرحية وأدب الرحلات... إلى جانب مؤلفاته الحافلة بالنظريات المعاصرة للفكر الإسلامي مقارنة بالنظريات العلمية الحديثة... والتي لا تزال تثير مزيداً من الرؤى المستقبلية، وكثيراً من المناقشات المفيدة... لا حدود لعالمه فهو يبدأ من الأميبا والحيوانات الأولية إلى المجرات بمجموعاتها النجمية والكواكب بأقمارها.. ولا عجب أن تجد هذا العالم باتساعه البعيد هو محور تفكيره واهتمامه فلا فرق عنده بين الأميبا والإنسان فكلاهما مخلوق ولا فرق عنده بين المجرة والذرة فكلاهما يحتل مكاناً في الفراغ الشاسع الذي يملأ الكون.. وبين هذه المتناقضات ينشأ العقل والشعور وهما السبيل إلى المعرفة.. لذلك نجد مصطفى محمود قد تخلص من الصيغ الجامدة والقوالب العقيمة المتراكمة عبر الزمن وصنع لنفسه صيغاً خاصة به نعرفه من السطور الأولى له.. والقصة القصيرة عنده ليست شخصيات بقدر ما هي فكرة، فالفكرة عنده هي المحرك للشخصية ومع ذلك يحافظ على القيمة الفنية للعمل على الرغم من طغيان الفكرة.. فنتعلق بها وكلما توغل في أفكاره وشطح بها نجدنا نلهث خلفه.. والبطل عنده في الرواية هو بطل له خصائص محددة بطل متبرم متمرد فلا يميل إلى التفاؤل الساذج ولا يجنح إلى التشاؤم المفتعل لذلك نجده في بداية مجموعة أكل عيش يقول أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف.. لحظة معرفة.. أريد لحظة تجعل لحياتي معنى.. إن حياتي من أجل أكل العيش لا معنى لها.. لأنها مجرد استمرار..
وهو لا يجد عجباً في الهجمة الشرسة على الإسلام والعرب، وقد تنبأ بها في أكثر من كتاب فيقول: إذا كانت أمريكا تتضخم وتتعملق وتملك أفتك الأسلحة وتمتلك القنبلة الذرية والهيدروجينية... فتلك قضيتها الأولى لاستعباد غيرها من الشعوب والأمم... الأمريكان يعملون جادين لمصلحة وطنهم وشعبهم منذ بزوغ كيانهم على الأرض... لكن العجب العجيب... ألا يعمل العرب والمسلمون - كذلك - لنصرة دينهم وشريعتهم، وتنمية أوطانهم ونهضة شعوبهم! مع أننا نمتلك معظم مقدرات العالم كله من الموارد والمواقع والمنافذ... فلولا العرب والمسلمون ما قامت للغرب قائمة، وما ظهرت لهم حضارة ولا مدنية...
وأعجب من ذلك كله... أن الأوروبيين والأمريكان واليابانيين وسائر الشعوب التي ازدهرت وتطورت، تغذت على مواردنا، وصعدت على أكتافنا، بل تتلمذوا على كتبنا، وجلسوا تحت أقدام علمائنا، وفلاسفتنا في العواصم الإسلامية.. ومنذ أن شاء الله للغرب أن ينهض، بدأ العالم العربي والإسلامي في الهبوط والعد التنازلي... حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن من الفشل الاقتصادي والتناحر السياسي والهزائم النفسية والعسكرية... فالعيب فينا وليس في عدونا... وهل كنا على أمل أن يعم السلام والوئام بين الدين الحق، وأباطيل اليهود وأوهام الصهيونية؟ أم أن هناك نبوءات بتعانق المسلمين والصرب، أو المؤمنين والكفار...؟!
ويضيف الدكتور مصطفي محمود فيقول:
إن سنن الله وحكمته في خلقه وكونه تظل باقية من غير تبديل ولا تحويل (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً )... هناك قانون ثابت يعمل في الفرد والمجتمع والطبيعة والتاريخ هو دفع المتناقضات بعضها ببعض (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ).
وهذا القانون يعمل منذ بدء الخليقة، منذ أن هبط آدم على الأرض، لتمحيص الأفراد، فيبقى الصالح ويقضى على الفاسد.... والمسلمون شهداء على الناس لأن عندهم المعيار الصدق الذي يحكمون به على جميع أهل التطرف من كل الملل والمذاهب... أما أسلوبه الأدبي فهو يحاول الوصول إلى القارئ البسيط بشتى الوسائل وأول هذه الوسائل اللغة ففي مجموعة (أكل عيش) مثلاً يبدأ قصة سفريات بتلك العبارة:
بنها.. طنطا.. نفر... العربية قايمة.. نفر..
كان الرجل يعوي والميدان ساكناً والساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل ورائحة الشواء تتصاعد من باعة الممبار وقد اصطف حولهم طابور الكلاب الضالة.. وأنا وحدي أدق الأرض بحذائي وأقرأ التلغراف في يدي للمرة الخمسين.. (زيزي انتحرت.. ابتلعت أنبوبة أسبرين.. حالتها خطيرة.. احضر حالاً)
ما هذه البساطة والروعة في الكتابة أسلوب يحملك على المتابعة والتعلق بالعمل بدرجة لا حد لها.. فقد أدركت أن وجود الدكتور مصطفي محمود على خريطة الأدب في تلك الفترة كان حتمياً ليكمل المنظومة الكبرى في الثقافة العربية.. في الرواية نجيب محفوظ وفي القصة القصيرة يوسف إدريس ومحمود تيمور وفي الأدب العقاد وطه حسين وفي الفلسفة زكي نجيب محمود وفي المسرح توفيق الحكيم وفي التاريخ حسين مؤنس.. كذلك وجود كوكبة من علماء ذلك العصر أمثال مشرفة وفاروق الباز مروراً بزويل وأيضاً علماء الدين أمثال عبد الحليم محمود والباقوري ومحمود شلتوت إلى متولي الشعراوي فكان لا بد من وجود كاتب يكون حلقة الوصل بين كل هذه العلوم والفنون جميعاً ليربط بينها برباط وثيق. لذلك نلاحظ أن مصطفى محمود تفرّد على أبناء جيله فلم يمش في طريق سبقه إليه غيره وإنما اختار طريقاً شاقاً وعراً محفوفاً بالمخاطر. فالعلاقة بين العلم والإيمان هي علاقة قديمة أحياناً تتخذ شكل صراع بين الطرفين وأحياناً أخرى تميل إلى المصالحة وقد تتدخل الأهواء السياسية وظروف المجتمع في تحقيق هذه المصالحة.
وقد نجح مصطفى محمود في تحقيق هذه المصالحة فكرياً فلا يمكن تصور أن ينفصل العلم عن الإيمان، فكلما توغلنا في العلوم زاد إيماننا وكلما تعمق إيماننا ازداد إدراكنا بالنواحي العلمية..
ليس هذا فقط.. فقد تميّزت كتابات مصطفي محمود بالاستشرافية وقراءة المستقبل اعتماداً على تفهمه واستيعابه لمجريات الأحداث، فقد تنبأ مصطفى محمود بكل ما وقع من أحداث خلال هذه الفترة.. فقد كتب عن سقوط اليسار قبل أن يحدث بأعوام وما تلاه من أحداث كانهيار حائط برلين.. كذلك تنبأ بتلك الهجمة الشرسة التي مُني بها الإسلام قبل أن تحدث بأكثر من عشرة أعوام.
وفي كتابه قراءة للمستقبل يقول: الأحداث السريعة المتلاحقة التي جرت في بداية التسعينات تغرينا بقراءة الكف أقصد كف التاريخ...
القوة الجديدة التي ولدت اليوم هو القوة الاقتصادية والعضلات الاقتصادية.. قوة الدولار والين والمارك قوة الإنتاج وعائد العمل وبهذا وحده سوف تتفاضل الدول بين غالب ومغلوب الغالب هو الذي سيبيع أكثر ويصدر أكثر ويتاجر أكثر على اتساع العالم والأسلحة الجديدة هي العقل الذي يخترع والأيدي التي تنتج..
وفي هذا التنافس والسباق لا حياة للسمك الصغير ولا للشركات الصغيرة ولا للدول الصغيرة.
ويواصل مصطفى محمود استشرافه للمستقبل فيقول: حتى المدن الكبرى سوف تنقرض في المستقبل.. ولن يكون هناك وابور نور وسنترالات تليفون وأعمدة تلغراف وقضبان ترام وسكك حديدية وإنما سيكون لكل منزل وحدة إضاءة خاصة به وسيتم الاتصال لا سلكيا..
وسيعتقل أي زعيم مستبد في غضون 24ساعة كما حدث مع نورييجا. (هذا الكتاب كتب قبل اعتقال صدام بأكثر من 15 سنة)..
كانت المجموعة الأولى من مؤلفاته التي صدرت فيما بين 1954، 1958 تمثّل المرحلة المادية العلمانية وفيها قدم:
الله والإنسان - أبليس ومجموعة قصص أكل عيش وعنبر 7 .
وفي هذه القصص حاول أن يصور المجتمع من منظور واقعي صرف وكان موقفه من المسلمات الدينية هو موقف الشك والجدال
أما المرحلة الثانية فهي بداية الشك فقد اتضح له عجز الفكر العلمي المادي عن أن يقدّم تفسيراً مقنعاً للحياة والموت والإنسان والتاريخ وفي هذه المرحلة وقف أمام الموت منكراً ومستنكراً أن يكون الإنسان هو هذه الجثة التي يراها أمامه وأنه هو مجموعة من عناصر الكربون والأيدروجين والأوكسجين والنحاس والحديد والكبريت والكوبالت والمنجنيز إلى آخر العناصر العشرين التي تتألف منها طينتنا وترابنا..
إنما الحقيقة الإنسانية لا بد أن تكون متجاوزة لكل هذا القالب المادي المحدود.. وعلينا أن نبحث عن حقيقته فيما قبل الميلاد وفيما بعد الموت وفيما وراء الطبيعة.. وفي هذه المرحلة كتب مؤلفاته: لغز الحياة ورواية المستحيل.. وتكاد تبوح رواية المستحيل فيما بين سطورها بهذا العطش الصوفي والروح الرومانتيكية.
لقد كتب الدكتور مصطفى محمود في كل شيء.. ووضع نفسه مكان كل الأنماط البشرية، الملحد والمتشكك والصوفي والفيلسوف ورجل الدين والأديب والعالم.. وخرج لنا بحقيقة عجيبة أن الإنسان - أي إنسان - هو خليط من كل هذه الأنماط مجتمعة، وترك لنا فرصة الاختيار..
وعلينا أن نعي جيداً..
* روائي وسيناريست - القاهرة