(مصطفى محمود / حوار مع صديقي المُلحد) هكذا وبدون مقدمات وبدون سابق معرفة لدى إحدى زياراتي المُنتظمة إلى المكتبة العموميّة للتزوّد بالإصدارات الجديدة والقديمة منها، وجدّتُني أمام عنوان لكتابٍ استوقفني برهبة آسرة، تقدّمت منه بحذر شديد، وبغفلة عن انتباه من حولي سارعت إلى البائع دفعت ثمن الكتيّب على عجل، ومضيتُ كمن يحمل بيده صكّ الإدانة، كانت سنتي الجامعية الأولى، وعلى الرغم من أني اخترت قسم اللغة الفرنسية في كليّة الآداب إلا أنّ قراءاتي المُكثّفة كانت تمتعني بلغتي الأم، الأم التي لا سواها تُدرك خصوصيّة العلاقة ومصداقيتها التي ستنشأ فيما بعد بيني وبينها من باب الاحتراف أولا والمُجازفة الممتعة على الدوام والممضّة بحكم انتشار وتفشّي (قراصنة المنابر) في كل مكان وزمان عرفتهم عن كثب وخبرة، المهم أنني أذكر فيما أذكر توقي الشديد للتسلل وقتها إلى ذاك الحوار، حوار (مصطفى محمود) مع صديقه المُلحد، ولا أخفي الشعور الفادح الذي انتابني بوطأة الذنب والمسؤولية اللذين عانيتهما قبل الإعلان عن التواطؤ إن لم أقل التوّرط في تلك المُناظرة الفكريّة الموثّقة بقلم الدكتور مصطفى محمود في حينه، ولم يكن من السهل في ذاك الوقت الإفصاح عن رغبة من هذا النوع، فالتدقيق التربوي كان على أشدّه، وأولياء الأمر يطالبون بالطاعة العمياء، التي كانت مدعاة لظهور أول ملامح التمرّد والعصيان الذي سيصبح منهجا فيما بعد، ينسحب على كامل فصول الحياة التي ظنّنا أننا نساهم في صنع ديمقراطيتها واستقلالها ليتبين بوضوح أننا لا نصنع سوى خيباتنا المُستفحلة والتي تكبّدُنا المزيد من الضرائب خيبة تلو الأخرى، المهم أنّ الغاية في حينه لم تكن تتعدّى فكرة الإصغاء المُحايد والاطلاع المحض على حوار مصطفى محمود وصديقه المُلحد، فمن ذا يجرؤ على الخوض في جدلية الإيمان ونقيضه الإلحاد فهو حتما آثم، والآثم قطعا محكوم بالإعدام الأُسري العائلي أولا والاقتصاص الاجتماعي دون ريب، ناهيك عن النبذ والرفض والتكفير، قرأتُ الكتاب للمرّة الأولى بنهم شديد وبدأتُ أقيس كل ما ورد فيه وقناعاتي الذاتية بعملية مسح شامل لكل ما يعتمل في جمجمتي الصغيرة والتي لا تزال.. بحكم ضيق الأفق لا ضيقها أغلب الظنّ، الضيق الذي لا يُتيح للنمو أن يتعدى المُراد لتوسّع الجمجمة ومكنونها في مجتمعاتنا العربية، وتسرّبت إلى نفسي تفاصيل الحوار بكل ما فيها من شكّ ومن يقين كعمليتين متعاقبتين ومتواليتين ذهنيا، بذات القدر وبنفس المعيار، أغلقت الكتاب وبدأتُ تنظيم المُفارقة وفرز الآراء، وكان مصطفى محمود وقتها أساس المُعادلة ومنطلقها، فمصطفى محمود هو الذي يشير إلى أهمية الإيمان وضرورة اليقين، وفي الوقت عينه فإن مصطفى محمود هو نفسه الذي تبنّى حوار صديقه المُلحد ودوّنه بكامل شكوكه وصاغه بتمام التباساته، بأسلوب مشوّق رشيق لا يخل ُ من أناقة الطرح ورقي الدلالة وسلاسة البوح وعمق التأثير، أعدتُ قراءة الكتيب وأقول الكتيّب هنا نظرا لحجم الإصدار الذي لفتني تواضعه والذي اعتمده على الدوام الدكتور مصطفى محمود في طباعة إصداراته التي سأتابع الكثير منها فيما بعد وهي من القطع الصغير الذي لا يزيد عدد صفحاته عن (160 ) صفحة تقريبا، أنهيت القراءة الثانية بتأنٍ أكبر، وأغلقت الكتاب لتبدأ حالة مُستجّدة على منظومتي الفكرية التي كانت طور التشكّل ذاك الوقت وهي حالة التأمّل والتدقيق والمُحاكاة والمُقاربة، أذكر فيما أذكر أيضا أنّ الحوار لم يعد يقتصر على الدكتور مصطفى محمود وصديقه الملحد بل صار حوارا مشتركا لثلاثتنا فقد بدأت بسجال ذهني مفتوح معهم، لازمني لفترة زمنية طويلة، اضطرتني لإدخال البعض ممّن أثق بجديّتهم وجدواهم من كبار العائلة وجهابذة القول ضمن دائرة ذاك السجال الذي أرهقني توليه منفردة، توسّعت وقتها دوامة البوح وبدأت تتجلّى بوادر المُناورة على أكثر من صعيد، ولا يزال السجال مفتوحا والجدال قائما حتى يومنا هذا، هذا الحوار الذي بدأه مصطفى محمود مع صديقه المُلحد والذي رشح وتسرّب إلى أذهاننا جميعا ليوقظ فينا (لغز الحياة)، وتتبّع (الشعوذة والطبّ) لنقتفي أثر (المشاؤون على الماء)، وننخرط دون تسلّم الدعوة في (حفلة تنكرية)
ونلعن (الجلادون) سرّا وعلانية، على أمل استكمال الموسوعة التي ناهزت التسعين
مؤلفا نحتاج لإدراكها عمرا إضافيّا بالتأكيد، إذاً مصطفى محمود لم يكن كاتبا استثنائيا فحسب بل مزارعا نشطاً غرس في تلافيف الروح والوجدان وثنايا العقل بذور المعرفة التي أثمرت مع الزمن أسئلة ملحّة للتبصّر في أدقّ التفاصيل والتأمّل في أبسط الأمور.
ربما تأخرتُ مع من تأخروا ليقولوا شكرا مصطفى محمود لإضاءة الكثير من شموع العلم والمعرفة في عوالمنا المُكتظّة بالجهل، لكن أن نصل متأخرين للاعتراف بالجميل خير من ألا نصل أبدا، أو نتعمّد كما كثيرون يتعمّدون عادة عدم الوصول، وعدم الإفصاح عن كلمة طيّبة موجزة ومعبّرة ككلمة شكرا تستحقّها بكل إكبار وتبجيل أيّها المفكّر الكبير مصطفى محمود صاحب الحضور الدائم وإن اضطرّك الغياب، والمُعافي فكرا ونضجا وحرفا وحبرا مهما تكالبت عليك الشدائد.