في عام 2003 أصيب الدكتور مصطفى محمود جراح الدماغ والأعصاب بجلطة في دماغه وليس في مكان آخر. كان الرجل قد أنهى ما يقرب من أربع وثمانين معركة فكرية وإيمانية للتو، وطريقاً طويلاً من الجدل الذاتي العنيف حول فكرة الله التي كانت تتأرجح على كفتي ميزان شديد التذبذب بين الشك والإيمان. وإن كانت رحلة الشك الطويلة والإلحاد مرت فوق سجادة الصلاة كما يقول الشاعر كامل الشناوي إلا أنها كلفت الرجل الكثير.
إن هذا العقل الذي لفحته رياح الصوفية وهذا الافتتان الخاص والزهو بقدراته الذاتية وإعجابه بمواهبه الكلامية وقدرته على المماحكة والجدل هي التي فتحت معارك روحه على مصراعيها وليس البحث عن الحقيقة كما ذكر في كتابه(بين الشك والإيمان). لقد كان معتداً بملكاته التي رآها من دون سقف فأبحر في محيط الأديان كلها وفند التيارات والفلسفات والأفكار وكان يعتقد أن العلم هو المفتاح وهو الحل والجواب الأخير على كل المعضلات وأنه لا يوجد ثقب صغير في هذا الكون لا يستطيع العلم سده أو التحايل عليه. لكنه أسقط من يده. لكن هذه الرؤية المادية للكون لم تكن بلا أرضية عقائدية. فهذه التجليات كان الله وراءها إذ هو القوة الباطنية التي تحرك كل شيء وبها يتحرك كل شيء. إنه في قلب الذرة وفي (البروتوبلازم).
إن عقل مصطفى محمود الذي فتن بذاته وتأثر بالتيارات المادية التي كانت قد بدأت تظهر في تلك الفترة فتح باباً وجدانياً في ذاته لم يغلق إلى الآن. لكن ليس هذا ما قاده إلى الإيمان وإنما صوت الفطرة في داخله؛ لا شيء يحيا ويوجد من دون سبب. وهكذا تفتقت الفطرة عن الحل والهداية في آن في كتاب القرآن الكريم لكن هذا لم يحصل إلا بعد أن أنهك هذا العقل بالبحث وأثقل كاهل رؤيته الحرة بشتى طرقات التفكير.
والشيء الذي لفتني في فكر مصطفى محمود أنه نأى بالإسلام عن كل جدل أو فرضية ليحوله ذاته إلى فرضية كاملة مكتملة. إننا نفهم أن مشكلة الفكر الديني التلقيني تكمن في عدم ارتباطه بأي صيرورة تاريخية زمنية أو مكانية. إنه منزل وموحى به. أما مصطفى محمود فقد رأى أن الإسلام ليس نتيجة لأي صراع طبقي كالاشتراكية أو الرأسمالية وإنما هو تماما هذا التوازن بين الفرد والمجموع. لقد قدم الإسلام حقا كثورة جديدة تتجاوز الثورة المعلنة والمعروفة عنه. ولهذا فإن الشك لم يكن لذاته وبذاته وإنما كان توقا مهولا لمعرفة الله وتقديم معرفته بالصيغة الأكثر عدلاً. وهنا أمكن له أن يدمج بين الروحي والمادي في العقيدة والفكر الإسلاميين. وما الأزمات اللاحقة عن الشفاعة وعلم النفس الإسلامي وغيرها التي طرحها مصطفى محمود إلا دليل على عدم قدرة عقله عن الاستكانة أو العزوف عن البحث المستمر حول الحقيقة.
عقل مصطفى محمود مثير للجدل. إنه ليس من المفكرين الإسلاميين الكلاسيكيين ربما الذين تتباهى الثقافة العربية بهم علناً ومن دون رفة جفن. فهو خارج سربه تماماً ولم يكن طريقه إلى الله مرصوفاً بالنوايا الحسنة أو أصداء التصفيق. فلهذا الموضوع شأن كبير في ثقافتنا العربية والجدل فيه يضع صاحبه تحت أضواء الشبهات والريبة. لكنه الرجل الأنسب حقاً لكي يُقدم للثقافات الأخرى فهو دليل صارخ على الحرية التي ينفيها عنا (الآخر) نفياً منهجياً مستمراً. إنه مثل جلال صادق العظم والغزالي وآخرين أعرفهم وتعرفونهم أرادوا أن يقدموا الإسلام كعقيدة لا غبار عليها عبر نفق الشك وفوق سجادة الصلاة دائماً، عبر بوابة الله وفوق الدرجات الصاعدة المؤدية إليه. لقد برع مصطفى محمود في أجناس أدبية أخرى وربما كان خير دليل على ذلك هو ما قاله جلال العشري في كتابه (مصطفى محمود شاهد على عصره): (يتعاطى الأشياء بعقله، ثم يعيها بوجدانه ثم يجسدها بقلمه، فإذا هي مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة، فإذا هي قطعة من الواقع وشريحة من الحياة، أو هي بنية حية فيها دسم الواقع ونبض الحياة، فنه القصصي غير قابل للتمذهب، استطاع أن يفلسف حياته ويحيا فلسفته، وأن يتخذ من أزماته النفسية الحادة وزلازله الباطنية العنيفة وتجاربه الحية وخبراته الوجدانية مادة لأدبه).
في سن الثامنة عثرت على رواية المستحيل لمصطفى محمود في مكتبة الوالد الذي كان شغوفاً بكتب الدراسات الإسلامية والتراثية. لم أكن حينذاك وبسبب صغر سني أعرف حتى كيف أقرؤها.. كنت أجرب تركيب حروف بعض الكلمات مع بعضها البعض وأعيد لفظها، كما في كتب القراءة ولكني لم أكن أفهم شيئاً. فالرواية لم تكن قصة بسيطة من قصص الأطفال وإنما كانت رواية نفسية مثل بقية رواياته (الأفيون والعنكبوت) والخروج من التابوت).... الخ. التي كانت هي الأخرى بلغة فلسفية عن أفكاره وتحليله لواقع الدنيا حوله ولمعضلة الإنسان. لقد كانت (نصوصاً) أخرى أترعت بالأسئلة وبالتداعيات والأفكار والمواقف والأجوبة غير المنتهية. إذا من أين لهذه السنوات الثمانية أن تدرك كل هذا؟ لكن اسم الرواية بقي في عقلي إلى اليوم الذي قرأتها فيه وأنا في أولى سني الجامعة. لقد عثرت على نفس النسخة في زاوية من المكتبة فرأيتها صغيرة رقيقة بينما كانت هي في عقلي كتابا ضخما من المستحيل الوصول إلى فهمه. لقد سمح لي الكتاب أن أتابع لاحقاً أغلب حلقات العلم والإيمان التي لم يخصص التلفزيون المصري للحلقة الواحدة منه أكثر من 30 جنيهاً، بينما كان الأمر يتطلب أكثر من ذلك بكثير بسبب ضرورة متابعة آخر الأبحاث العلمية والاكتشافات. لكن البرنامج استمر ونجح بسبب المساعدات الخاصة وإيمان البعض بوجوب فتح الأفق إلى أبعد من أنفنا التراثي وإن تم بعد ذلك إبعاد هذا البرنامج الناجح عن خريطة التلفزيون المصري من دون ذكر سبب واضح لهذا الإبعاد. مع ذلك كان الرجل مؤمناً بالعمق.. فلقد بنى في عام 1979 مسجد (مصطفى محمود) في المهندسين بالقاهرة الذي ضم ثلاثة مراكز طبية ومستشفى تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود شكل قوافل للرحمة من عشرات الأطباء وأربعة مراصد فلكية، ومتحفاًللجيولوجيا لكن الأحلام لا تنتهي وهو يرى أن خدمة كلمة الله لا تقف عند موته.
اليوم، يهز المغرب العربي كتاباً للمفكر الإسلامي التونسي (محمد الطالبي) بعنوان (ليطمئن قلبي، الجزء الأول: قضية الإيمان وتحديات الانسلاخ... لقد أعاد الطالبي كل هذه الأسئلة الوجودية الكبرى ولكن من خلال إعمال العقل في فهم القرآن والإسلام انطلاقاً من التراث نفسه ومن فهم حقيقي لفحوى الآيات من دون تحميلها ما ليس فيها. فهو يرى أن الإعجاز القرآني هو في انتقال الإنسان من عهد السحر، عهد الكتب الأولى، عهد موسى -عليه السلام- عهد الغرائب والعجائب والأساطير والخرافات وما يتبعها من أنواع التحريف، إلى عهد العقلانية. القرآن يطوي عهداً ويفتح آخر. إنه يتوجه إلى (قوم يعقلون) وإلى (قوم يتفكرون).. أليس هذا ما رمى إليه مصطفى محمود حقاً! ألم تذكر كلمة عقل في القرآن 49 مرة! وذكرت كلمة العلم بمعنى المعرفة 768 مرة، وذكر القلب بمعنى التأمل 172 مرة، وذكر البصر بمعنى الإدراك 147 مرة، ووردت كلمة الذكر بمعنى الانتباه والتساؤل 268 مرة! فإذاً، لماذا لم يكن لمصطفى محمود آنذاك أن يستخدم ما هو وارد وموحى به للوصول إلى الله؟
هذا هو السؤال الذي تستحيل الإجابة عنه من دون الدخول بعمق إلى عالم مصطفى محمود العلمي والثقافي والفني الغزير.. الغزير.
* قاصة وناقدة سورية - حلب