المقاييس الفنية في نقد النقد الحديث د. سلطان سعد القحطاني
|
مقاييس حديثة تمحور النقد في بدايات النهضة حول المقاييس النقدية التراثية، كما هو مذهب مدرسة الإحياء، فقد كانت فكرة النقاد البداية الحقيقية، من حيث انتهى الآخرون في عصر ازدهار الأدب، في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وكان ذلك في المعاهد الأزهرية في مصر، وقد تميز بعض النقاد في هذا المنهج بآليات النص التراثي وفي مقدمته (الذوق) على مذهب ابن طباطبا، الذي عرضنا له من قبل، وقامت مدرسة شوقي وحافظ إبراهيم، والنقاد من ورائها، مثل المويلحي وسيد المرصفي بترسيخ هذا المفهوم نقدياً، وامتد هذا التيار إلى البلاد العربية وأقربها، قلباً وقالباً منطقة الحجاز، الذي بدأ النقد فيها بمقياس اللغة والنحو في نهضته الأدبية، وكان مؤسس النهضة الأدبية الحديثة، عبد القدوس الأنصاري (ت1403 1983) ممن اهتم بهذا الجانب، فمن دراسة ينقد فيها رواية أحمد السباعي (فكرة) يقول: (وفيها كذلك مآخذ لغوية، منها، مثلا "في نواديهم" والصواب في أنديتهم، فالنوادي لغة شوارد الإبل، جمع نادية، كالبوادي والبادية). وكذلك نقد محمد حسن عواد لديوان القرشي: (وفي البيت خطأ آخر هو قوله "روضة جرداء" بنصب الخبر وهو مرفوع، فإن أراده وصفاً لروضة فكان حقه التعريف لا التنكير ليطابق الموصوف، وإن أراده حالاً فالحال يتقدم على النعت في موقع كهذا كما اهتم النقد ونقده بالعروض في الشعر، والوزن والقافية، فقد نقد إبراهيم هاشم فلالي قصيدة للسيد حسن فقي، عنوانها (محاورة) ذكر فيها كلمة (عجول) فقال الفلالي: (إن لفظه عجول هذه التي اختارها لأن تكون تتمة البيت وخاتمته.. كانت في غير محلها.. ولكن وزن البيت لم ينته فاضطر إلى اقحام لفظه عجول ليتم الوزن..). لقد قدمت هذه النماذج لنرى رد فعل النقد (نقد النقد) هل سلم بهذه الآلية، جملة وتفصيلا، أو كان له عليها تحفظ؟ وأكتفي هنا بنقد واحد يعبر عن رأي الأغلبية، فقد عقب أحمد عبد الغفور عطار على هذه الآلية بقوله: (إن الشعراء الممتازين هم الذين عرفوا أن الشعر ليس هو الوزن والقافية، وهي من لوازم الشاعر)، ونحن نتفق مع العطار على أن هذه لوزام، ولكنها ليست كل ما في القصيدة، ومن المقاييس الآلية للنقد في بداية النهضة، المقياس البلاغي، كالاستعارة والمحسنات البديعية والحشو والاحالة وبراعة الاستهلال، والوضوح والغموض في المعاني واستعمال الالفاظ في غير مواضعها، فالعطار ينقد الشاعر حسين سرحان، فيقول: (...صوغاً غير سليم، لا بارد ولا كريم: هذا دليل على استعمال الألفاظ في غير مواضعها) ووضوح المعنى مقياس من مقاييس إبراهيم هاشم فلالي، يقول في نقده لأحد أبيات قصيدة للعمودي: (معان واضحة في بيان واضح، لا لبس فيها ولا دوران، الحق إني أميل إلى الشعر الواضح وأمجد صاحبه، ذلك لأن المعاني كامنة مخبوءة في النفوس، وميزة الشاعر في بيانها وتوضيحها...). كانت هذه لمحة عن بداية النقد التقليدي في الحجاز (السعودية) في بداية النهضة، فهل ما زال كذلك، وهل قابل نقدا يحد من انتشاره ويدعو الى التجديد؟ نعم، أما بالنسبة لهذه المقاييس فستبقى ما بقيت اللغة وهي لوازم من لوازم الكاتب والشاعر والناقد، لكن آليتها اختلفت تماماً فلم تعد هي الأساس المعول عليه في الدراسات النقدية، ونقدها، أما أن هناك في ذلك الزمن من عارضها، فنعم، محمد حسن عواد من أشد المعارضين لها، فقد هاجمها في كثير من مقالاته النقدية، ودعا الكثير من الشعراء والكتاب الى التخلي عنها والكتابة بالأسلوب الحديث، وما جاء منها فليكن عفو الخاطر، يقول في نقده لديوان حسن قرشي وينصحه أن يلقي قدر المستطاع عبء الاستعارة فالعواد لم يطلب منه التخلي عنها كلية، بل طلب منه التخفيف منها. مقاييس حديثة: لم يكن النقد الأدبي الحديث يرفض القديم جملة وتفصيلا، كما يظن البعض من المتعصبين، ولم يقرأ النص النقدي العربي الحديث قراءة تمكن الناقد من استكناه الوعي المتجذر في روح العربي عندما يعالج النصوص برؤية جديدة وبآلية تختلف عن الآلية التي تعود عليها المتلقي والناقد التقليدي، والتي يرى فيها الكثير من النقاد حماية لهم من نقد الآخرين لنقدهم بالأسلوب الحديث، وكانت الآليات الحديثة المستخدمة في النقد ونقده مستغربة في بعض الأحيان، لكن النقاد الواثقين من علمهم وأدواتهم النقدية أثبتوا صلاحيات هذه الآلية وتلك من خلال دراساتهم النقدية، وهناك بعض منهم لم يوفقوا في استعمال هذه التقنيات، لضعف في الموهبة النقدية، وشرَّق الكثير منهم وغرَّب في النقد، معولاً على المذاهب الحديثة، وأخطأها، فحمل الشرقي تبعة الغربي، وسأكتفي بثلاث آليات مارسها النقاد في البلاد العربية، وستكون السعودية نموذجاً على ذلك: الأولى: الإحصائية: وهي آلية في النقد ليست من الجديد ولا من القديم، بل هي مزيج بينهما، فهي موجودة في الدراسات النقدية القديمة، لكنها لم تلق العناية الفنية في تلك الدراسات، مثلما لقيتها في الدراسات الغربية الحديثة، وتقوم على إحصاء المتكررات من الألفاظ وعلامات الترقيم، واستعمال لفظة بعينها لعدد من المرات.. ومنها يحكم الناقد على ثقافة المبدع، أو الناقد، من خلال القراءة الأولى أو الثانية، وما بعدها، ونجد في النقد العربي في السعودية، وفي غيرها نماذج من هذا النوع النقدي، ولكن تكمن المشكلة في استخدام هذه الآلية، فهناك من الدارسين من حول الفن الأدبي الى معادلات رياضية صماء، لا روح فيها، وقد أوقعت بعضهم في مأزق شديد، كان في غنى عنه، فالإحصاء محمود إذا أحسن استعماله وجاء في مكانه، والعكس صحيح. ويعتبر أول كتاب في النقد الأدبي الحقيقي في السعودية كتاب (المرصاد) لإبراهيم هاشم فلالي، وقد تعرض هذا الكتاب للنقد بعد صدور جزئه الثاني، من عدد من النقاد، فهذا عبد الله عبد الجبار ينقد نقد الفلالي لبيت من قصيدة للأستاذ أحمد إبراهيم الغزاوي.
(قلب ترف به الذكرى محلقة | فوق (الأناسي) بالأملاك يقترن) | فيقول فلالي: (ولا اعتراض لي إلا على هذين القوسين اللتين حصرتا فيهما كلمة الأناسي فما معنى ذلك؟) ويعقب على هذا القول عبد الله عبد الجبار، بقوله: (وكأن الفلالي بهذا الاستفسار قد جهل أو تجاهل السمة الكبرى للأستاذ الغزاوي وهي حشد علامات الاستفهام والتعجب والحواصر وغيرها من أدوات الترقيم في شعره حشداً لم نر له مثيلا في التاريخ الحديث وأنا إذ أقول هذا أعني ما اقول، وليس في قولي أية مبالغة، خذ أيها القارئ أية قصيدة من شعره المنشور في الكتب أو الصحف تدرك صدق ما ادعى.. أو تعال معي نقرأ أية قصيدة له في كتاب (شعراء الحجاز)، ولتكن (تحية الجيل الجديد) فماذا نجد؟ نجد(9) علامات تعجب، و(28) علامة استفهام و(29) علامة اعتراض وثلاثاً وثلاثين كلمة بين الحواصر مع ملاحظة أن الترقيم في هذه القصيدة يعتبر نسبياً أقل من المتوسط كثيرا مما هو مثبوت في شعر الغزاوي. ويعلل عبد الجبار نقده للفلالي بأن العلم الحديث قد أثبت الحالة الشعرية النفسية عند الشاعر، ومصدرها القصور الشعري، فهو على حد تعبير الناقد عاجز عن التعبير تحت مصطلح (Inferiority Complex) (عقدة النقص) فعوض عن هذا النقص باستعمال أدوات الترقيم!! ولم يوضح الناقد في نقده للناقد عن مهام أدوات الترقيم في العمل الأدبي وهي: أهمية الكلمة، وغرابتها، وحصرها يدل على معنى من المعاني، يجب على الناقد أو يدرك معناها، ولو بالتأويل الفني، وهو مذهب جديد من مذاهب النقد الأدبي. الثانية: الشعرية، معنى جديد في النقد الأدبي في اكتشافها، ولو أنها قديمة قدم الفن الأدبي، فشعرية المكان في أدب ما قبل الإسلام (الجاهلي) لا تحتاج إلى دليل، والشعرية التي يقصدها النقاد اليوم، هي الذوق الذي اكتشفه وأكده ابن طباطبا في نقده للشعر، ولكن هذه الآلية الحديثة في الدراسات الغربية تحت مصطلح (Poetic) وهو ما يدعو المتلقي للتفاعل مع النص (الذوق) الفني، وهناك من يرى الشبه بينها وبين الأسلوب، لكنها في النهاية اختيار اللفظ المناسب، في يسر وسهولة، وعندما نقد الفلالي الشاعر عبد الوهاب آشي في بيت يقول فيه:
دعاني أساجل أحرارها | وقوما لنقفو آثارها | يرى الفلالي: (إن دعاني لفظة غير شعرية، وإن خلياني أشعر منها) ويعقب عبد الجبار بقوله: (فهل هذا صحيح؟ وهل كان العرب في مثل هذا المقام يؤثرون خلياني! انهم كانوا يقولون: دع ودعاني، كما يقولون خلياني، ولا نريد أن نمثل بما قالوه في الجاهلية وصدر الاسلام والعصر الأموي، وإنما نكتفي بمثالين من شعر أبي نواس الحجة في الذوق وحسن الاختيار على الأقل إذ يقول: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء، ويقول:
دعيني أكثر حاسديك برحلة | إلى بلد فيه الخصيب أمير | ويبدو من نقد الفلالي انه متحيز ضد منقوديه، وقد سبب له هذا التحيز نوعاً من الإحراج، فما ذكر أنه خطأ أثبته النقد على العكس، وهذه ميزة نقد النقد، انه يصفي ويغربل النص الثاني، ويحاول إنصاف النص الأول، ولو أن فلالي تريث قليلا لوجد الكلمتين صحيحتين، ولو نظر إلى شاعر قد جمع الكلمتين في قصيدة واحدة لوجد الفن الشعري يمتد بلا حدود، فها هو مهيار الديلمي يقول:
دعوني فلي إن زمت العيس وقفة | أعلم فيها الصخر كيف يلين | وخلوا دموعي أو يقال نعم بكى | وزفرت صدري أو يقال حزين | والكلمتان بمعنى واحد (اترك) ولكن يتوقف المعنى على الدلالة والتذوق الفني لسياق الكل. ثالثا: الثقافة الفلسفية، يرى بعض النقاد أن الفلسفة تحدد موقف الأديب، ويرى البعض عكس ذلك، فالفن إذا قيد بفكر معين تحول إلى نظام، ولكن الناقد (كولرج) يرى المزج بينهما واجباً من واجبات النقد الأدبي، وقد اهتم بعض النقاد العرب بهذا الجانب الفلسفي، لكن ما نعنيه هنا الثقافة بمعناها الواسع، ونظرة الإنسان للحياة، ولعل العقاد يكون في طليعة هذا المنهج بآليته الفلسفية، ويرى بعض النقاد أن هذا المنهج من الأدب الحي، ويرى محمد حسن كتبي: أن المتنبي استطاع وحده ان يبدأ تلك العملية الشاقة المضنية، عملية إدماج الفلسفة في الشعر، وإشراب الشعر روح الفلسفة، وهذا يعني المزج بين العقل والخيال بطريقة فنية لا تغلب واحداً على الآخر. هذه بعض المظاهر النقدية، فماذا قال عنها نقد النقد، وما هي رؤية النقاد عليها، لعلي أكتفي بواحد، إضافة إلى ما قيل باختصار في الصفحات السابقة، يقول الدكتور صالح بن عبد الله الخضيري: (إن الجهود التي قدمها نقاد مرحلة البواكير خلال فترة امتدت ما يقرب من ثلاثين عاماً ذات أهمية خاصة، فقد وجدوا طريقاً مليئاً بالصخور، ولم يتوقف جهدهم عند تمهيد وتعبيد الطريق بل تجاوزوه عندما توافرت لهم أسباب النهوض.. وإن لم يوفقوا في بعض الآراء التي طرحوها، ولذلك كان للصحافة دور.. كان نقدهم نقداً قيمياً يكاد يقتصر على الحكم على العمل الأدبي.. وإذا كانت هذه النتيجة التي توصل إليها الدكتور الخضيري في دراسته على بواكير النقد في السعودية (الحجاز) في فترة البدايات، فماذا قالت الدراسات التي ظهرت بعدها؟
drsultan1@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|