الشنطي وحائل مثال للعلاقة بين الشخصية والمكان د. ناصر الحجيلان *
|
عند الحديث عن الدكتور محمد صالح الشنطي لا يمكن إغفال ارتباطه العاطفي بمنطقة حائل التي أمضى فيها ما يزيد عن نيف وثلاثين سنة؛ عمل فيها أستاذا، ومحاضرا في المنتديات والأنشطة، وباحثا ومؤلفا. وقد قدم جهدًا علميًا مفيدًا للدارسين تجاوز منطقة حائل ليشمل الثقافة السعودية والعربية. ومن المؤكد أن ثمة علاقة حميمة بين الشنطي وبين المكان، وهي علاقة يمكن أن نفهمها إذا عرفنا أن الشنطي لم يكن أول من عشق حائل من غير أبنائها؛ فهناك عدد غير قليل من غير أهل حائل، وعدد من غير السعوديين، وعدد من غير العرب جاؤوا إلى حائل في فترات سابقة ووقعوا في حبها بما تحويه من عوامل طبيعية، وبشرية، وقيم أخلاقية.
ومما يزيد موضوع الارتباط بين المكان والشخصية وضوحا أن الشنطي لم يبحث عن العمل في مدن كبيرة أخرى، وربما لا تروقه الفكرة. وكأنه يعمل بمبدأ سكان حائل نفسه في الاتصال العميق بمنطقتهم؛ ذلك أن أغلب أهل حائل لا يفضلون العيش خارجها، وحينما يبتعدون عنها يصابون بمرض الحنين إليها.
وقد ذكر الأستاذ الفاضل سعد العفنان في كتابه (حائل وعبقرية المكان) ما يثبت هذا الحب لحائل من جوانب متعددة.
ومما يجدر ذكره أن المكان يمثل قيمة أساسية لدى الإنسان، ذلك لأن علاقة الإنسان بمحيطه ليست مجرد علاقة مادية فحسب؛ بل هي كذلك علاقة نفسية وعقلية تشكل خياله وسلوكه. فالأرض كما قال الفيلسوف الفرنسي راتزل لم تتغير منذ الأزل ولكن جذور الإنسان وأحلامه ملتصقة بها. وكأنه يشير إلى الفكرة البديهية وهي أن الإنسان لا يمكن أن يوجد إلا في مكان معين؛ وهذا المكان يعتبر عاملا مؤثرا في الوعي الإنساني بعامة على جميع المستويات. وقد تنوّعت أنماط المعارف التي اتخذت من المكان موضوعًا للدرس والبحث، في محاولة للتعرف على القوانين الحاكمة لحركة تكوينه وأثره على الكائن بوصف المكان عنصرا أساسيا للوجود الإنساني من جهة، وللوعي الحضاري من جهة أخرى.
ومن أبرز الحقول التي عنيت بدراسة العلاقة بين المكان والإنسان (الجغرافيا البشرية) التي كان كتاب الباحث الفرنسي لوسيان فيفر عن (الأرض والتطور البشري) يمثل أهمية في محاولة وضع الخطوط الرئيسة لتلك العلاقة. وتبرز أهمية المكان من كونه عنصرا رئيسيا في تشكيل المنظومة المعرفية للإنسان التي تتكون فيها تصوراته عن العالم. فعلى سبيل المثال ليست التصورات الدالة على التقدم أو التخلف إلا تصورات مكانية ترتبط بمنجز مكاني معين اكتسب تلك المعطيات. بل إن بعض تصوراتنا عن المشاعر الإنسانية التي تتمثل في القرب والبعد ما هي إلا تصورات صاغها وعينا المكاني.
وإذا تأملنا حائل باعتباره مكانًا حظي بانجذاب عدد من الناس إليه، فسنجد أنه يحفل بسمات متنوعة. فالطبيعة في حائل بشكل عام جميلة؛ وجمالها يظهر في عناصر كثيرة منها الجبال ذات الألوان الفاتحة وما فيها من أعشاب وزهور، ومنها التراب النظيف جدا، ومنها الهواء النقي. ويبدو أن نظافة حائل التي فازت فيها في سنوات ماضية هي صفة قديمة، فقد ذكرت الرحالة البريطانية الليدي آن بلنت (Anne Blunt) في القرن التاسع عشر الميلادي أن نظافة حائل كانت مذهلة. ووصفت نقاء هواء حائل وجمال الطبيعة فيها وأثرها على الناس في مذكراتها. تقول مثلا عن حائل حينما خرجت منها: (كان أجمل منظر رأيته في حياتي على الإطلاق، وسأحاول وصفه؛ في البدء، الهواء في جبل شمر يتصف دائمًا بالنقاء. فاليوم كان نقيًا شفافًا يفوق ما قد تصادفه في أي صحراء أو في أعالي جبال الألب أو في القطب الشمالي أو في أي مكان آخر..).
وقد أفاضت في تقديم وصف دقيق للغاية لمختلف معطيات الطبيعة مبرزة الجانب الجمالي فيها الذي ترى أنه يثير في النفس الشعور بالبهجة والحيوية؛ وذكرت أن زوجها يقول: (كل مكان هو مثل أي مكان آخر إلا جبل شمر فلا شيء يشبهه على الأقل فيما شاهدت في هذا العالم).
كما أفاض الرحالة الألماني يوليوس أوتينج (Julius Euting) في وصف طبيعة حائل التي زارها برفقة الفرنسي هوبير عامي 18821884م. وإن كان يغلب على وصفه الجانب الطبوغرافي إلا أنه لم يهمل علاقة الناس بالبيئة. وذكر الرحالة الإيراني السيد عباس الموسفي الذي زار حائل في القرن الثامن عشر بأن حائل (كأنها روضة من رياض الجنة). أما في العصر الحاضر فلسنا بحاجة إلى الشواهد، فالواقع يكشف جمال حائل الطبيعي.
يضاف إلى الطبيعة الجميلة في حائل؛ فهناك قيم أخلاقية رفيعة يأتي الكرم في مقدمتها. فقد ارتبطت قيمة الكرم بأهل حائل منذ زمن حاتم الطائي، حتى صارت لازمة أو صورة نمطية لكل من ينتمي إليها. ومن الواضح أن الكرم ليس مجرد عادة اجتماعية ولكنه يمثل قيمة عليا عند الناس؛ ذلك أنهم يعتبرون الضيف هبة من الله. ومن الطبيعي أن تجد من يضع خروفًا في سيارتك إذا رفضت عزيمته لك؛ لأنه يرى أن هذا حقك ويجب عليه تقديمه. واللطيف في الأمر أنه لا يبحث وراء ذلك إلا رضا الضيف الذي ربما لا يعرف اسمه. ومما تجدر ملاحظته أن الكريم في حائل ليس مرغمًا على ممارسة الكرم بضغوط اجتماعية ممّن حوله لأنه قد يكون وحيدا في الصحراء وليس بحاجة إلى إبراز نفسه أمام أحد.
من هنا فإن هذا المكان استطاع أن ينقل سماته إلى من يستقر فيه، ونجح في جذب الرحالة والعلماء وجعلهم يتمسكون بالبقاء في حائل، فقد قال ولفرد بلنت (W. Blunt) بأنه سيكون راضيا بالموت في حائل. كما قال الشنطي في حفل تكريمه الذي أقيم مؤخرًا في جدة برعاية وزير الثقافة والإعلام بأنه يعتبر أنه يعيش في بلده الأول.
ومما يلاحظ أن المكان والإنسان يتبادلان التأثير؛ ورغم صعوبة القول بأن المكان يصنع الإنسان إلا أنه يمكن القول بأن المكان يسهم في تشكيل تصورات الإنسان ورؤيته للعالم. ففي عبارات شاعرية قال الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوسان (Victor Cossin) عن المكان: (أعطوني خريطة بلد ما وتضاريسه ومناخه وموارده المائيّة ورياحه ونباتاته وحيواناته فإني حري أن أخبركم مقدمًا ما هو إنسان هذا البلد وما هي خصائصه..).
ولعل الدكتور الشنطي الذي قدم منجزات ثقافية عامة ارتبط بمكان خاص، مما يفسر لنا طبيعة العلاقة بينه وبين حائل المكان التي ربما لم تحتل كتابته عن ثقافتها مساحة تقارن بما كتبه عن ثقافة العرب عامة. فلم تكن علاقته بحائل علاقة منفعة بقدر ما كانت علاقة حب بما يعنيه الحب من سمو في العاطفة ونبل في الهدف. والجميل في الأمر أن أهل حائل يحبون الشنطي ويبادلونه مشاعر العرفان ويشعرون بأسى شديد لفراقه. ويعدّ الصديق عبد السلام الحميد أنموذجًا لشباب حائل الكرماء الذين يبذلون جهدًا كبيرًا لمحاولة المحافظة عليه لأطول وقت ممكن، ويشاركه عدد كبير من الناس ممن يريدون التعبير عن مكانة الشنطي الرفيعة في نفوسهم، وشكره على عطائه الفكري السخيّ طوال فترة وجوده بينهم.
* جمعية اللهجات والتراث الشعبي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|