الشنطي.. وثقافة الحوار والتسامح علي الدميني
|
أ
وحين يحضر الدكتور الشنطي فإن كينونة إنسانية ومعرفية متفردة ستضيء المكان بما تنطوي عليه من ملكات لا تتوفر إلا للقلة والمتمثلة في دأب التحصيل المعرفي وجلد المتابعة وشمولية النظرة، وحوارية النزعة المرتبطة بدقة المصطلح وعفة اللسان، وكأنما يؤسس بدون ضجيج للممارسة الثقافية والفكرية المتسامحة والتي تصب فيما ندعوه اليوم بالإيمان بمبدأ التعددية وحق الاختلاف.
وإذا كنا دائماً سنقدر لإخواننا الأدباء العرب الذين عاشوا معنا هنا هموم ساحتنا الأدبية وساهموا في تطويرها واغنائها طيلة الربع الأخير من القرن العشرين فإن الدكتور الشنطي سيأخذ موقعه بينهم كواحد من ابرز الأقلام النقدية الفاعلة في حياتنا الأدبية في المملكة التي عايشت لحظات التخلّق والتحديث ومغامرات الحداثة وعنفوان الصراع حولها ومعها.
ومنذ أواسط السبعينيات، وفي غمرة تشكل ذائقة جديدة وهموم ثقافية وفكرية مغايرة وبروز الكثير من الأصوات اللافتة في ظل افتقار الساحة للأسماء النقدية الحديثة بدأ الشنطي ممارسة فعله النقدي واهتمامه بالنتاج الإبداعي الحديث ليسهم في لحظة تاريخية مواتية في لعب دور الناقد والمعلم في آن.
وفي هذا المناخ الذي لم تكن معايشته سهلة أو مجانية حيث ما يزال الكلام قريناً بمجابهة تبعات الموقف تضميناً أو مكاشفة، وجد الشنطي نفسه منحازاً إلى منطق الحوار الهادئ والعميق وإلى صيرورة التطور والابداع وإلى فضاء الحوارية والتسامح.
وقد يظن البعض بأنه كان وسطياً أو مجاملاً ولكن من يقرأ أعماله بعمق سيرى أنه لعب دوره بلياقة عالية ولباقة حذرة حيث عبر عن موقفه واسهم في توسع دائرة التحاور والتأمل حيال الكثير من القضايا مثل الصراع حول مشروعية شعر التفعيلة والغموض والتجريب في حقل الشعرية، وجدل المناهج النقدية الواقعية والألسنية والتقليدية، وبروز إبداع المرأة ومقاربة سؤال وجودها كمبدعة ومثقفة.
وفي هذا الصدد يمكن أن نقف تحديداً أمام متابعته الدءوبة للأقلام الجديدة وقراءة نتاجها وفق منهج نقدي تكاملي عني بتحليل مكونات الخطاب وعلاقاته بتشكيل جمالية الرؤية.
وقد أثمر هذا الجهد عن مؤلفين هامين أولهما عن تجربة القصة القصيرة في المملكة خلال تلك الحقبة وثانيهما عن الرواية ومحاولة البحث عن معنى وتأصيل لهذا الفن المديني العصي على الاستنبات في مناخ يمر بتحولاته الكبرى وحمولاته السيسيولوجية المعقدة صوب هواء المجتمع المديني والمدني معاً.
ب
في كتابه الصادر بعنوان (النقد الأدبي المعاصر في المملكة)، يقترب الشاهد من ارض شهادته ويقترن التاريخ بضميره الحي، ويغدو الدكتور الشنطي مثالاً ملموساً على حقيقة ما يشبه المجاز في قولنا: (سيحفظ التاريخ للمخلصين والمتوارين خلف حجب الصمت الفضائل المنسية التي اجترحوها ذات يوم).
والكتاب الصادر في مجلدين ضخمين نافت صفحاتهما عن الألف ومائة صفحة عن (دار الأندلس بحائل) يستحق الاحتفاء والتقدير والمناقشة أيضاً.
وباعتقادي أنه سيغدو واحداً من أهم المراجع وأغناها في سياق التاريخ للحركة النقدية بالمملكة، لأنه شهادة مشارك فاعل في مشهد حراكها الثقافي وانفتاحها على التجديد، وثمرة انشغال طويل على بلورة مسارات تيارها الواقعي في حواره مع آلياته أولاً ثم في جدله المعرفي مع التيارات الأخرى التي أصبحت ساحتنا الثقافية ومنذ أواخر السبعينيات إحدى بؤر تفاعلها وصخبها واحترابها أيضاً.
ولعل من اللافت في هذا الكتاب وسيرة مؤلفه ما نلحظه من قدرة على المتابعة وتطوير الذات والانفتاح على الآخر بحيث لم يغلق الشنطي نوافذه على حصيلته المعرفية وعدته النقدية التي تنتمي لمخاضات الستينيات، بل استجاب لتحديات المناهج والتيارات النقدية والألسنية والحداثية، فقام بجهد فردي تثقيفي عميق أهّله لحوار تلك التيارات من داخل حقولها والإفادة من خبراتها وآليات مقاربتها للأعمال الإبداعية، دون التخلي عن بوصلة المنهج والرؤية التي ينتمي إلى شجرتها والتي عمقتها دراسته للحصول على الدكتوراه.
وسوف لا تخطئ العين وهي تتابع قراءة هذا السفر ما يتمتع به الدكتور الشنطي من شمولية الرؤية وحضور الشاهد والمؤرخ وجَلَد الباحث والمتابع لما احتضنته صحافتنا الأدبية خلال ربع قرن من اجتهادات نقدية ومعارك ثقافية، وأن يستحضر كل رموز تياراتها المتعارضة من محمد مليباري وعوض القرني إلى الدكتور الهويمل وأبي عبدالرحمن إبن عقيل إلى محمد العلي والغذامي والسريحي.
كما استطاع ان يتابع جلّ ما نشرته المطابع من نتاج نقدي محلي محاوراً وممارساً لعملية نقد النقد التي تشترط الاطلاع على مناهج الآخر ومرجعياته لكي يتمكن من مقاربتها والتحاور معها.
وقد صاغ كل تلك القراءات والمداخلات بلغة دقيقة في مصطلحها شفافة في تعبيرها ومتسامحة نأت بالرأي والدرس النقدي عن التعصب الأيديولوجي والانغلاق الثقافي الأعمى، مساهماً بكل جدارة في التأسيس لمناخ ثقافة الحوار والتسامح القائمة على ركيزتين هما: معرفة الآخر واحترام الاختلاف معه، وعدم إغفاله حين يحضر ضمير كتابة التاريخ النقدي وتدوين الشهادة.
ج
يتعرض الدكتور الشنطي في الفصل الثالث من كتابه للحديث عن تفاعلات الحساسية الجديدة (الحداثة) في ساحتنا الثقافية، ويصدّره بعرض لجذور المصطلح وتجلياته المختلفة في الثقافة الغربية، ثم يتبعه برصد شامل لجهود أبرز الأدباء والنقاد العرب الذين تأثروا بالمصطلح وعملوا على تبيئته في المناخ الثقافي العربي والمحلي.
وبالرغم من أن كتاباً بهذه الرحلة الشمولية لا يمكن أن يستوعب عرض المنطلقات العامة للحداثة في كل مصادرها الأصلية، إلا أنه حاول رسم صورة بانورامية شاملة عنه وعن تأثر المثقفين العرب به، ولكنه بقي ممسكاً بالجهد الأساسي المنصب على متابعة جدل ارتباط الحراك الثقافي المحلي في بعض تجلياته بآفاقه العربية والعالمية.
وقد ركز على الجانب الفني في حركة الحداثة متخففاً من الدخول في تفاصيلها الفكرية والفلسفية، ولعله بذلك ينطلق من تفاعل ساحتنا المحلية مع هذه الحساسية والتي تركزت ومنذ السبعينيات في مساري البحث عن آفاق ممكنة للحرية الإبداعية والتجديد أو التجريب الفني بشكل خاص.
وحيث لا يمكن لنا أن ننعزل عن ما يجري في العالم، وفي حقل الثقافة تحديداً، إلا انه كان من الممكن لساحتنا الثقافية أن تستمر في وتيرة التجديد بشيء من اليسر الطبيعي المصاحب لحركة تطور المجتمع لولا دخول ما ليس أدبياً في المعترك الأدبي، حيث دخلت أطراف أخرى من خارج الحقل الأدبي محملة برؤية أو بقراءة أيديولوجية وتحزبية لتقوم بعملية تأويل ومصادرة لكل الجهود الإبداعية والتنظيرية المنتمية إلى تيار التحديث والحداثة، فكان ذلك كافياً لإشعال فتيل المواجهة القاسية.
وقد عمل الشنطي على متابعة تفاصيل تلك الاختلافات فجاء عمله شاملاً ومغطياً لفترة طويلة، ولكن كثافة المادة قد أسهمت في وجود بعض الهنات الصغيرة في هذا المؤلف، مثل تكرار نفس الاستشهادات، وكثرة الأخطاء المطبعية، وبعض حالات عدم الدقة في ترتيب أسماء النقاد بحسب أدوارهم ومراحلهم مثل (محمد العلي)، ونسيان بعض المشاركات النقدية للكتاب البارزين مثل (غازي القصيبي)، كما لم يتم توثيق الردود على كتاب الشيخ عائض القرني والتي لم تسمح الصحافة المحلية بنشرها فقام أصحابها بتوزيعها في أوساط المثقفين أو بنشرها في الصحف الخليجية.
ولعل أهم الملاحظات هي ما يتعلق بحجم الكتاب وتبويبه بحيث كان من الأفضل توزيعه في عدة مواضع متسقة يتم نشرها في سلسلة كتب قد تصل إلى الخمسة.
ولأهمية هذا الكتاب، لاشتماله على عرض ومناقشة الجهود النقدية لأكثر من سبعين ناقداً وكاتباً وأكثر من ثلاثين مؤلفاً نقدياً محلياً، فإنني أدعو لعقد ندوة متخصصة حول هذا الكتاب وتتويج ذلك بتكريم مؤلفه على مجمل مساهماته في حياتنا الثقافية والنقدية على وجه الخصوص.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|