جارالله الحميد
من ضمن أخلاقيات الراحل العظيم الملك الفقيد (عبدالله بن عبدالعزيز) - أمطره الله بشآبيب رحمته- وأنزله منزلة الصديقين والشهداء، ذلك القرار الذي كان له دويّ في العالم والعالم العربي بشكل خاص والذي أصدره بصفته نائباً لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله- والذي كانت فحواه أنه
(لا يجوز أن يَمْثُل الكاتب أمام المحكمة الشرعية بسبب كتابته ولكنه يحال إلى وزارة الثقافة والإعلام ومن حقّ أية جهة أساءت إليها كتابته أن ترسل للوزارة المذكورة ممثلاً عنها يحضر مراسم محاسبته.. إلخ)، فقد وضع هذا القرار الديموقراطي حدّاً لبعض الذين استغلوا الدين الإسلامي السمح في الكيد لبعض الكتّاب الذين يختلفون معهم في التفاصيل. وإلا فإنه في الخطوط العريضة أو الـ HEADLINES فإن مجتمعنا ومحاكمنا الشرعية وحكومتنا متفقون على أن الإسلام خطّ أحمر ليس من السهولة بمكان تجاوزه أو القفز عليه أو النيل منه بأي شكل من الأشكال. وكان القرار المذكور شكّل قفزة اجتماعية كبرى بشأن وجوب احترام الأفكار المختلف عليها بسبب أن التعبير عنها حقّ من حقوق الإنسان التي لا خلاف بشأنها والتي كرّر القرآن الكريم والأثر النبوي الشريف توجيهه لرسوله عليه الصلاة والسلام ولتابعيه حقّ (الجدل) في الفكر وتحت عنوان {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية. وهنا نرى جزءاً من كاريزما الفقيد العظيم، إذ يظهر وعياً ونبوغاً وموهبة في فهم رسالة الإسلام الذي نحمد الله على أنه خصّ أرضنا الكريمة باحتضانها وبثها للعالم.
وتعود بي الذاكرة إلى أزمة عصفت بالرأي العام المصري وبالأخص الرأي العام الثقافي في الثمانينات يوم أفتى أحد المسئولين في حكومة (حسني مبارك) بجواز إحراق عدد معيّن من الكتب بأسمائها وأشخاص مدونيها. وتم تنفيذ فتوى المسئول الذي اتضح فيما بعد أنه جزء من حراك جماعة (الإخوان المسلمون) التي تمّ تصنيفها قبل عامين في جمهورية مصر العربية (جماعة إرهابية) والتي آل إليها الحكم بعد ثورة 25 يناير المباركة ولكن الجيش المصري بقيادة المشير عبدالفتاح السيسي تدخل وفوّضته عشرات الملايين بهذا التدخل فقوّض حكمها الذي كان سينعكس على المنطقة العربية بأسرها باعتبار مصر مركز قوة أصيلاً فيها بالتشرذم والاحتراب والقتل وما تتضمنه أجندة الجهاديين من بنود تتوجه أولاً و(حتماً) إلى مؤسسات الحكم في المجتمعات المدنية فتنقلب عليها بكل ما في الانقلابات من وحشية وعنف ومصادرة وإقصاء.
إن أهم ما ميّز الله به خلقه من بني الإنسان هو العقل. والعقل حقل التجربة والبرهان والميزان العدل. فلم يكتف الخالق جلّ وعلا بأن خلق الإنسان في أحسن تقويم، بل منحه نعمة العقل التي تميزه عن سائر المخلوقات. وما جاءت حركة تدعو لإلغاء وإقصاء العقل إلا وفشلت وانقلبت على عقبيها خاسئة وهي حسيرة. إنها من ردود الأفعال السلبية والطفولية مسألة الجحود والنكران لقضية راسخة ومتجذرة مثل حرية الرأي وحرية التعبير لأن الله تعالى ليس بحاجة إلى أن يثبت لأحدٍ ما مسألة أنه عادل لا يكيل بمكيالين كي يحاسب عباده يوم الدين حتى لو أن أحدهم ظلم بهيمة من بهائم الأنعام لبعثها الله لتقتص منه. فتبارك الله الملك العدل الحق العظيم. ومحاربة الأفكار بإحراق الكتب التي تتضمنها عمل غير متفق مع جبلة الإنسان كما أن الحرق والأساليب الشبيهة تعدّ من الكوارث والنوازل التي ندعو الله سراً وجهاراً أن يصرفها عنا. لأن بإمكان الطرف الآخر المعاقبة بالمثل فهل تستوي حياة وهي تقوم على المصادرة حتى إضرام النار في الرأي الآخر؟! إن الاختلاف نعمة من نعم الله، بل هو آية من آياته.