جارالله الحميد
لا تكن مثل شجرة وحيدة محوطة بالإسمنت وعطشى.. وحزينة. لا تجلس وحيدا في شارع ٍ يكنّ لك الكراهية. ولا مع رفاق ٍ يخذلون صاحبهم. كن مثل كتاب ٍغير مفتوح. يخبئ لنفسه الشعر الذي تتنفسه ويعدك بحلم ليس له علاقة بالجحيم. والماء الحميم. وحين يعاندك النوم قل له: إذا أردتني شحاذا لك من وقت المغرب حتى يؤذن ديك الصباح. وتسكت شهرزاد عن الكلام المباح. تقبّل الوحدة كحقيقة وكنتيجة لما يدور في ذهنك من اسئلة عن زمن الترقب للمغادرة. لأنك
عشت في هذا الزمن لحظات هانئة وأدخلت فرحة صغيرة في قلب صديق. ولكنّ القليلين يتحملون الغربة. أنت منهم. فكن جديراً بكونك واحدا من قليلين. مع الكثيرين تضيع منك نفسك ووجودك وماهيتك. وفي وحدتك ها أنت تستمتع متعك البريئة. تقرأ الجريدة حتى إعلاناتها الصغيرة وتصاب بحالة من الفضول فتقرأ حتى المقالات التي تعرف مسبقا أنها رديئة. هل هدفك هو قضم الزمن بطريقة أن تتغدى به قبل أن يتعشى بك!. والدليل على أنك لست على صفو ٍ مع الزمن كراهيتك لساعات الحائط. كل شيء فيها قبيح من شكل استدارتها إلى أطرها الداكنة أو الباهتة ودقاتها التي تشبه دقات قلب متعب يذكرك بالعزلة.
لا تهتم بصدىً غريب يثور بدماغك في الهزيع الأخير من الليل. وقل له : أعرف أنك كذبة من سلسلة الكذبات التي تفتش نفسها متعمدة أن تريك تمرحلها وبمن مرّت ومن ستمرّ. كل هذا لا ينبغي أن يكون هو مصدر شعورك بمدى كونك مهما ومستحقا للحياة. ليكن أنه ليس في محفظتك سوى أوراقك الرسمية وليس فيها ورقة عملة واحدة فهذا أمر ليس بغريب عنك. ثم إن كونك مفلسا هو قدَرُكَ الذي عليك أن ترضى به. بل: أن تستسلم له. ولا تفتش عن جرح قديم لتغوص في تفاصيله. فتمارس حالة الإحباط من جديد وتصبح مثل مسبحة تكرر نفسها. ومثل تقلب الليل والنهار. فأنت موجود. وترفع رأسك لترى ما حولك؛ فلا ترى سوى بقايا تبغك وشايك القديم وورقات طائرة من تحت يديك وفراشك والجدران الصامتة والمصبوغة بلون ليس له معنى. وتضع البطانية على وجهك منذ ألف عام تضعها على وجهك. وأنت تبحث عمن يرسم لك هذا الوضع ؟ فلا تجد من يمكن أن تضعه موضع المسئول خاصة والجميع يجيدون طرقا جنية للهرب من المسئولية. ونحو هدف ٍ بعيد وجميل سِرْ. إمض كرجل ٍ مرتاب ولكنه ممتلئ بالأمل في أن الذي سوف يجيء أفضل مما أنت فيه من كافة الأوجه وأولها شكل فراش الغريب الذي تلتحفه في ليالي الغربة والوحشة حيث الصمت لا يخرقه سوى صوت الريح يهدر كأنه الأزيز، وأصوات عصافير المساء وهي تجتمع اجتماعها الأخير لليوم وتثرثر بلا انقطاع عن الليل وضرورة النوم وضرورة البكور ثم تأوي إلى أعشاشها تاركة الغرباء محتشدين بالصمت والعجز والسكوت.
لا تكن مثل الرجل الذي لا يريد النهوض من فراشه خشية أن يقع. في كل خطوة يخطوها يستعيذ من عدم اتزان مشيته الذي يفضي به إلى الوقوع مرة يرتطم بكرسي ومرة يقع عليه كوم من كتبه التي لم تصفّ بعناية فيزيد ذلك من إحباطه ويأسه. ولا تكن مثل السيد (جرجور) الذي يخلع ثوبه حال دخوله بيته وإغلاقه الباب ويدخل عاريا ومعه القدر الذي جمعه من ولائم مرّ بها مرور اللئام. وحين يجلس ليجتر قصصه المكرورة ويحس أن هنالك من يتطفل على عزلته التي اختارها لأنه لا بديل عنها يمكنه اللجوء إليه واعتناقه، يقول بصوته الغليظ الدهني (يا من تطل إن كنت امرأة فغطّ وجهك لأن هذا القطّ القابع بجانبي إنسي رجل يتلبس قطا لأسبابه التي لا يعلمها سوى الله وإن كنت ذكرا فكيف لا تغدو رجلا وتخجل من نفسك أن تستغل قصر جدارك لتتطفل على آخرين؟!.
ويمرّ الليل ثم يدور مع دوائر وسواسك ويغذي خوفك بسواده وقدرة سماع الآخرين لأية حركة تصدر عنك لذلك لم تدع الولاعة للزمن ، فهي صموت وتشعل لك سيجارتك وتضيء لك حين تبحث عن شيء صغير وقع منك. لأن شخطة الكبريت مسموعة قدرَ ما هي خطرة عليك ككائن مضطجع. أدنى شرارة تشعل فراشك المهلهل أو غترتك التي وضعتها بجانب الوسادة تحسبا ليوم ٍ يجيء فتصبح فيه مثل الآخرين تملك جدولا لأعمال تقوم بها حتى الظهيرة المبكرة حيث تدخل ممتلئا باعتزاز مصدره أنك تردّ على المشككين في مقدرتك على أن تعود من أي مكان سالما ولم تتعرض للضياع أو النوبة الدماغية. ويمضي الليل تاركا آثار سيره خطوطا متعرجة على صدرك تؤلمك لكنك تؤجل الوجع إلى حين تنتشر في الأرض ويكون معك نقود ولديك زاد قليل ليوم ونصف يوم آتيين. وحين يجيء الصبح تباغتك حالة صفاء ذهني ورضا عن نفسك سرعان ما تتحول إلى حفلة تأنيب لنفسك وأنت تستمع إلى خطى الناس المفيقين من نومهم والمتجهين لعملٍ دؤوب يظلون فيه حتى يموتوا أو تقوم الساعة أيهما أسبق!.
كن مثل نفسك. قل مع أنني فعلت ما فعلت من أشياء يعتبرونها مشينة فأنا أفضل منهم. لكي لا تبالغ في تأنيب ذاتك حدّ الجلد. ولو كان بإمكان الذين يجلدون ذواتهم أن يحصلوا على شيء أكثر إيلاما ووحشية من الجلد لتزاحموا زحاما عظيما كي يبلغوه. فلا تكونن منهم. واهجرهم هجرا جميلا !. وكن أنت. الذي سافر صغيرا ووحيدا ومتكبرا رغم ذلك ، والذي اختار مصيره دون تردد ودون مشورة أحد. والذي مرّ به الجوع والبرد والفقر فلم ينكسر. ولم يلق ِ بنفسه على أرجل الآخرين طالبا العفو والمغفرة. تذكر يوم تركك صديقك في صيف غابر وحدك في شقة تعيسة في دمشق. بلا نقود ولا رفاق وبدون أن تكون لك اية خيارات سوى الرضوخ للواقع المرّ. وتذكّر يوم جئت إلى الغرب في وطنك. كنتَ تطير فرحا حين تلقى صديقك الذي كان يضمر لك ما لم تكن تتوقع أن يضمر. كان يظن أنك اختطفت منه عمله. وكان يلمّح بهذا حين يشتم كل المؤسسات التي ينعتها بالقمعية والسخيفة. ويوم تبادلتما (الهجران) مضيتَ دون أسف تمشي وحيدا في ساعة الغروب ممتلئا بالريبة من كل ما هو بنظرك: تهديد أمنك الشخصي وتفتيش حياتك التي تكمن فيها احتجاجاتك على التهميش وعلى التلصص على الحرية الفردية وعلى المصادرة وعلى مفردات كثيرة.. كثيرة. كأنك في جفن الرّدى وهو نائمُ!. تذكّر أخاك يوم ضرب رأسك بجهاز الراديو الصغير ولكن القاسي والمؤلم لأنك استضفت قريبك الذي هو الآن عندك ولكن يلزمك قطع عدد صغير من الكيلومترات وهو ليس بعيدا - موضوعيا - لكنك لا تعرف ماذا ستقول له في أول حوار سيكون بينكما بعد قرابة تسع سنوات من الافتراق الذي لم يكن مطلقا افتراق مختلفيْن ولكنه افتراقا مرهونا بعبارة سنرى بعضا إن شاء الله!. والآن تمّ الحصار بنهاية مؤلمة ومثيرة للتساؤل. فطبيبك الذي في (عمّان) أبلغك عبر سكرتيره أنهم منعوه من إرسال الأدوية إليك عبر البريد الممتاز الذي كنت تدفع رسومه مسبقا. وقال لك بمرارة إن هذا الإجراء ليس عاما!. ألا يكفي ذلك لأن تتأكد أنك محاصَر وأنت لا تعلم أو بتعبير أوسع أنك غافل عما يدور خلف ظهرك. مع ذلك - مع قسوة ذلك - لم تبك ولم تلطم كالمنكوبين وواصلت مراجعة (مؤسسة الحزن الرسمية) للحصول على أدويتك التي يمنعك من توفيرها بنفسك أن واحدا أو اثنين منها يعتبران خاضعين للرقابة ويوصفان بذلك الوصف الذي تقبله الناس كما يتقبلون كل شيء غير متساءلين وغير خاضعين لضمائرهم بل إنهم يسيطر عليهم الضمر العام. وهو متقبّل ومطيع. بل ويبلغ ببعضهم الفجور أن يبرّروا كل تصرف أعلى بأنه من نعم الله عليهم.
هل يكفي هذا لأن تمشي على العجين ولا (تلخبطه!)؟!. أيها العابر زخم السائرين. والذي:
مشى بك ليل وهو أسودُ حالكُ
فنمتَ كأن الليل صاحبكَ الأوفى
وكنت ترى ما ترى
وكنت شبيها بالذي سقطت يده في الخطيئة لكنه مات قبل الممات
يابن ذاك الذي كان يعلو ويعلو
ولكنه ذات يوم ٍ أتى وهو منسحق وحزين
وأراكم أصابعه التي انتفخت فجأة ثم قال
لا (تحطّوا) العشاء إلى أن يجيء الرجالْ
وبكت أمك في برهة ٍ وعلمتَ الذي لم تكن تعلمه
أيها الولد الشارد ممتلئا بالغموض
ومزدحما بالشعور بخيباته وانتظار الذي سوف يأتي وأنت َ منسحق بالثبور
والزمان الذي كان يهديك بعض السعة
صار نفس الزمان الذي لا يزال يدور
والهواء الذي كان ينعش قلبك صار هواء السعير
والمحبة جاء من وصموك بها واستباحوك والآخرون
ليس في قسماتهمو أي شكل ٍ من الحزن أو ما يشابه حزنك الواسع المستطير
يا هلي كنتُ أكثر حزنا عليكم من شعوري بأني أمارس نسيان ذاك السعير
الذي كان أكثر عصفا بروحي وكنت أرى حلما وأنا هائم كالدخان الكثير!