ليس سراً أن الحكومات العربية بكاملها في الخمسين أو الستين سنة الماضية تبادلت المنافع بالتراضي مع الفكر التقليدي، ولذلك اصطفته وقدمته كغطاء سياسي وشرعي واجتماعي وثقافي، في الداخل والخارج. التعليم كمثال، بكامله وفي كل مراحله وضع تحت هذا البند، مثله مثل كل التوظيفات والخطط الحكومية الأخرى. هذه التوافقية كانت تخدم الاستقرار الاجتماعي المشروط بتراضي الطرفين الأقوى في أي مجتمع عربي، السياسة والدين بصرف النظر عن الناتج الاجتماعي. لم يكن أحد يفكر في النتائج اللاحقة المحتملة لتأجيل الانفتاح العلمي والفكري لصالح المحافظة على الهدوء في الداخل بالإضافة إلى تقديم ذلك للخارج كعذر سياسي لعدم التسرع في الانطلاق نحو الأمام.
مع الزمن استجدت مراحل أخرى من التعاون المشروط بين الحكومات والتقليدية لأسباب خارجة عن قدرات ونوايا الطرفين، أهمها غزو السوفييت لأفغانستان والانقلاب المذهبي الشيعي في إيران. تحت مسمى التجنيد الجهادي فتحت الخزائن وسلمت مفاتيح التربية والتعليم والتثقيف الإعلامي بالكامل إلى الطرف المعروف برهابه من التنوير الفكري والعلمي وبتحريضه ضده بحجة المحافظة على العقيدة والهوية والأعراف، إلى آخر المنظومة التقليدية الاجتماعية.
كأمثلة شديدة الوضوح على التراضي التوافقي يكفي النظر إلى السكوت عن اشتراط تكافؤ الأنساب في الزيجات وتقسيم المجتمع إلى القبيلي والخضيري وانسحاب الدولة من البت في قيادة المرأة للسيارة وترك القرار للأعراف والتقاليد وهي (أي الدولة) تعلم من الذي جعل المجتمع يرفض مثل هذا الحق الشرعي بتعليلات تقليدية اجتماعية.
على كل حال، في النهاية لا يمكن أن يصمد ويلبي الحاجات التطويرية سوى ما هو بالأساس قائم على منطق عقلاني لا تنتهي صلاحيته إذا استنفذ مبرراته.
المعول الأول والأقوى الذي تغلغل في بنية التراضي بين الحكومة والتقليد كان من دون قصد أو تحسب للنتائج، عندما تم التجييش العاطفي العقدي والمذهبي للمشاركة في حروب خارج المنطقة العربية. ثم وبعد انتهاء المهمات في أفغانستان وكشمير والشيشان والبوسنة والصومال عادت العقول المبرمجة تقليديا إلى ديارها، ولكن بعد اكتسابها خبرات تدميرية وثقافات جهادية إضافية من خارج أدبيات التقليد الأول المعروف بعفويته وفقره العملياتي الكامل. منذ بدايات هذا المنعطف أصبح واضحا أن نصل السكين قلب من الخارج نحو الداخل.
هذه المقدمة الطويلة مجرد محاولة للحث على التفكير العميق فيما ينتظر وزير التربية والتعليم السعودي الجديد في أهم وزارات الثقافة والإدارة التقليدية. الوزير الجديد في التربية والتعليم أمير يستلم المهمة من أمير سبقه في المهمة الصعبة وربما المستحيلة ولم يستطع تحقيق المطلوب. وزارة التربية والتعليم التي كانت تسمى سابقا وزارة المعارف، قامت منذ بداياتها على مبدأ التراضي بين الدولة والمنظومة التعليمية والتربوية التقليدية، وبناء على ذلك تمت برمجة كل مناهجها للحصول على ما يرضي الطرفين ويضمن الهدوء الاجتماعي مع بعض الاحتيال لتفادي أو تأجيل الاصطدام بين القديم والجديد، وهو أمر لا يستطيع تفاديه أو تأجيله أي مجتمع يقرر بصدق المشاركة في التطور الحضاري البشري بدل أن يعيش عالة عليه وأحيانا معطلا له.
إذن الوزير الجديد في وزارة التربية والتعليم سوف يتسلم، ليس وزارة بالمعنى المتعارف عليه مؤسساتيا وإنما قلعة مرهوبة الجانب من قلاع التقليدية لها هذه المواصفات:
أولا: لديها، في مبناها المركزي في الرياض، امتداداتها الطرفية في المدن والقرى والهجر مئات الألوف من الإداريين والمستشارين والمعلمين الذين سوف يشعرون بالتهديد في صلاحياتهم لو هبت عليهم رياح التغيير. سكان هذه القلعة التليدة من البيروقراطيين المتمرسين في كل المهمات، هم أصلا خريجون سابقون من مناهجها التربوية والتعليمية، تحولوا لاحقا إلى حراس على القلعة مقابل المرتبات الشهرية وتشابك المصالح ومنافع أخرى.
ثانيا: بالإضافة إلى التراضي القديم على أهداف المناهج التعليمية والتربوية تكونت داخل الوزارة وامتداداتها أعداد كبيرة من الشخصيات المتمركزة في الإدارة والاستشارة واختيار مؤلفي المناهج وترسية المناقصات وطبع الكتب وتأمين القرطاسيات وتنظيم الامتحانات وتصحيح ورصد النتائج وصرف المكافآت واستئجار المباني وإرساء عقود الصيانة ووسائل النقل وغير ذلك.
هؤلاء كلهم يرضعون من نفس الأثداء القديمة ولن يرضون بحليب له مذاق مختلف دون مقاومة شرسة.
ثالثا: سكان هذه القلعة المهيبة يستندون في المجتمع السعودي على مؤيدين نافذين يثنون عليهم في المجالس ويدعون لهم في الفضائيات والعنكبوتيات، ويدعون على مخالفيهم على المنابر.
وزارة بهذه العراقة في التقليد والتماسك البيروقراطي لن تنفع معها محاولات الاسترضاء والاستمالة والاستصلاح، وإنما عمليات كسر التحالفات والخلع والاستبدال. أعانك الله أيها الوزير الجديد في أصعب مهمة في هذه البلاد على الإطلاق.