للقمر وجهان، مرئي ومخفي. كنت قبل أيام في دبي، ما غيرها، قمر الخليج، اللؤلؤة البراقة في جيد حسناء عالمية ليست خليجية ولا عربية.
ندرة المقاعد في المقهى أجلستني إلى جوار روسي عملاق، لا يجيد غير لغته الروسية، فيعوض عجزه بخلطة عربية إنجليزية روسية. بهذه الخلطة استطاع أن ينقل لي ما يريد قوله، وفحواه أن الخدمة في مرافق دبي سيئة بسبب وجود الهنود والآسيويين، ولم يقل والعرب لأنني عربي، لكنها ضمن الاستنتاج. هذا الروسي يقيم في دبي خمسة أشهر في السنة، والسبعة الأخرى في روسيا، ويمتلك سيارة مرسيدس في دبي، ويسكن في فندق من فئة خمسة نجوم.
قال إنه يعمل في العقارات، عقارات دبي، ولم أستطع أن أصدقه ولا أن أدخل معه في استجواب. لِمَ المجازفة وقد يكون الرجل عضواً في منظومة ما غير عقارية. مما فضفض به الروسي عن دبي أن الخدمات المتميزة يجب أن تكون أمريكية والطبابة ألمانية؛ لكي يستطيع السائح الاستمتاع بالحياة في دبي. المساهمة الروسية لتحسين الحياة في دبي لم يفصح عنها، وأنا لم أسأله.
عشت أربعة أيام في دبي في الأسبوع الماضي، ولم أشاهد أكثر من أصابع اليد الواحدة من المواطنين المحليين. السعوديون كثر، ويسهل التعرف عليهم من خصوصياتهم المميزة. الغربيون البيض كثيرون، وكذلك الآسيويون الصفر، لكن الغلبة لأبناء القارة الهندية؛ هؤلاء حاضرون في كل مكان: بنوك، مصارف، فنادق، مطاعم، مقاهٍ، بيع، شراء، قيادة سيارات، مغاسل وبقالات.. إنهم باختصار حاضرون بكثافة في كل مكان.
يظل من اللافت أن حضور الإماراتي بشكل مرئي في دبي نادر جداً، ولولا وجود السعوديين والمصريين والشوام لما سمعت كلمة عربية واحدة هناك. لغة التخاطب السائدة في كل مكان هي الإنجليزية.
الشاهد هو أن دبي مدينة حداثية متميزة، وكل شيء فيها جميل ومريح، ما عدا عريها من الهوية، وخلوها من أهلها. ذلك الروسي عبَّر بلسان كل الأجانب المقيمين في دبي؛ لأنهم يعتبرونها مدينتهم. سبق لي أن سمعت في مقابلة إذاعية سيدة من أهل دبي الأصليين تتوجع، تكاد تبكي لشدة شعور أهل دبي بالغربة في بلدهم. تقول إن بعض الأجانب أصبحوا يعاملوننا بفوقية، ويقولون عنا أنتم قمامة (rubbish).
أعرف أن عرباً كثيرين، وخصوصاً الخليجيين منهم، يكنون إعجاباً غير محدود لتجربة دبي التنموية، ويستمتعون جداً بما تقدمه لهم دبي من ترفيه واستجمام وفرص استثمارية. هذه هي الطريقة نفسها التي يريدها البريطاني والأمريكي والإيراني والهندي والروسي لدبي، يريدون منها مدينة عالمية لهم وعلى مقاساتهم. لا أحد يهتم أو يريد أن يفكر في أهل دبي وهويتهم ومستقبل بناتهم وأولادهم، كعرب ومسلمين وكتاريخ عريق ضارب في القدم.
الآن، أهل دبي الأصليون ليسوا أكثر من اثنين في المئة في مدينتهم، والبقية أجانب. لأهل دبي الحق، بل من الواجب عليهم أن يفكروا في نتائج التنمية الأخرى، غير التسلية والترفيه والاستثمار السياحي. العاقل يعرف بماذا يفكرون وما هي همومهم.
حصل أهل دبي على بنية ترفيهية ومعمارية ومالية (فقط) هي الأفضل في المنطقة وجوارها. الثمن هو مواطنان أصليان مقابل ثمانية وتسعين أجنبياً. لاحظ أن التنمية العلمية والبحثية والصناعية الإنتاجية لم تكن بالنجاح نفسه، ولا بما يقارب ذلك.
سؤال موجَّه إلى عرب الخليج الآخرين، وخصوصاً السعوديين المستمتعين برفاهية دبي: هل تقبلون بتنمية في بلدانكم بالمواصفات والنتائج والشروط نفسها؟ يستحسن التفكير جيداً قبل الإجابة.
التنمية الحقيقية لها مواصفات أخرى، أهمها المحافظة على البلاد لأهلها، ولكن ليس بشروط الماضي بل بشروط المستقبل. الإنسان هو المستقبل، هو دائماً المولود الجديد وليس المقيم المستقدَم.