* من أين تأتي مصادرة القوة الإدارية؟. سؤال دائماً يتردد عند المتخصصين، أو على من يتلقّى التدريب على مهارات الإدارة، والفرق بينها وبين القيادة؟ ربما تختلف الإجابة عليه من بيئة إلى أخرى، أو من ثقافة مجتمع إلى آخر، فالمجتمع الذي يستمد سلطته من القبيلة، أو الذي يتمركز قراره وفق إرادة الفرد الواحد..
من الطبيعي أن يكون المركز الاجتماعي هو مصدر نفاذ القرار، بصرف النظر عن واقعيته وعدالته، وشموليته، وأبعده التطويرية، وتحقيقه للأهداف، والمجتمعات البدائية تحترم، أو تنقاد لمثل هذا التوجه، لأنها نشأت، أو تربت على ما يسمّى بالطاعة العمياء التي لا تقدّر آراء المجموعة، وفي علم الإدارة (الحديث)، وفي الدول المتقدمة التي تحترم إرادة المجتمع المدني، لم يَعُد لهذا المصدر أيّ اعتبار، واعتبر من موروثات المجتمعات البدائية، ولم يثبت من خلال التجارب في فن (الإدارة) قدرة أولئك الأفراد الذين يعتمدون على مراكزهم الاجتماعية ممارسة الدور المأمول في عمليات الإصلاح والتطوير والتنمية المستدامة، في أي بلد، وفي أي مجتمع، بل إنّ الاتكاء على ذلك يُعَد سبباً من أسباب إعاقة التنمية في دول كثيرة. إذ إنّ من طبيعة هؤلاء الأفراد، وفي هذا النسق في الإدارة عدم اكتراثهم بوضوح التشريعات، أو تقنينها، ولا بوضع خطط برامج وعمل ذات صبغة مؤسسية، والمنظرون لعلم الإدارة، وهم يتناولون مصادر القوة في اتخاذ القرار يذهبون إلى ما هو أبعد في التدليل على ذلك، حيث رجعوا إلى التاريخ وأحداثه، في قيام الدول وسيادتها، وسقوطها وعوامل انهيارها، وقوّتها وأسباب صمودها، ويتخذون من قرار القيادات ما يلهم الدارسين لفنون الإدارة وأفنانها.
* تمنيت في هذا الطرح الاعتماد على أي بحث علمي محكم تناول مصادر القوة في القيادة لدى البشر، لكي نبرهن من خلال الأرقام المقنعة، والتحليل العلمي لها أثره على تلك الدول التي نحت، أو لا تزال تنحى هذا المنحى في إدارة شؤون مؤسساتها الداخلية، وبخاصة الخدمية. هناك تجارب نادرة وقليلة جداً لنماذج بعض القيادات الإدارية التي تجمع في مصادر قوّتها بين المركز الاجتماعي والكفاءة العلمية المهنية، ولها أثر ملموس في المؤسسات التي تديرها، ولا يمكن إنكارها في أي حال من الأحوال، لكن لا يمكن أن يعد هذا اللون هم النموذج المطلوب محاكاته، أو التمثل به.
* مرت مجتمعات بتجارب عديدة، بل بكوارث مأساوية لازالت بعض آثارها، إذن لا يعنينا اليوم تلك القوة الرسمية المستمدة من المركز الاجتماعي، أو الوظيفة، ولا يعنينا من الإداري قوة السلطة القانونية، أو الشرعية، ولا قوة الإكراه والقدرة على المكافأة، فأصحابها لا يسعون إلى إقناع الآخرين، أو إسعادهم ورضاهم، بل أصبحنا نتطلّع لقوة غير رسمية، قوة الخبرة التراكمية والمعرفة المستمدة من مجال التخصص . قوة يستطيع من خلالها الفرد، من خلال موقعه على التواصل مع كل مستجد، في الداخل والخارج، يستطيع من خلاله الوقوف على آخر التطورات المعرفية التي تتلاءم مع مهام واختصاصات مؤسسته ووظيفته، بشقيها الإداري والفني . حتى تلك المهارة المعرفية والعلمية، وحينما تكون هي مصدر القوة للفرد، يفترض ألاّ يغيب عنه، وهو يمارس أدواره صوت المجتمع، لا أن ينطلق من منطلق متعالٍ تخرج عن إرادة المجتمع وهاجسه وضميره الأخلاقي والقيمي .
* مجتمعنا السعودي اليوم ليس هو المجتمع بالأمس، حيث لمس الجميع من القيادة الرشيدة الحرص الكامل في إدارة مؤسساتها ومجالسها على اختيار من تتوافر في شخصياتهم عدة مهارات، أو مقوّمات تمكنهم من إدارة المنشأة، أو المؤسسة وتطويرها، والرفع من مستوى كفاءة العاملين فيها، ونحتاج إلى مزيد من الوقت، وإلى المزيد من الانفتاح والاستيعاب لكل ما يجري من حولنا، لكي نقود مجتمعنا بكل أطيافه إلى هذه الرؤى والمفاهيم الحديثة للإدارة العصرية، إذا تفهّمنا كل ذلك ستتلاشى تلك الأصوات التي نسمعها بين الفينة والأخرى، وتعتقد بعلم، أو بدون علم أنّ المركز الاجتماعي للفرد هو مصدر القوة، وهو المعوّل عليه في قيادة بعض المؤسسات والأجهزة الحكومية، ذلك الصوت، أو تلك الرؤى أمست محفوظة في ذاكرة التاريخ، لتصور مرحلة من المراحل، أو تجربة من التجارب الإدارية التي لم يكتب لها ذلك النجاح في عصر العلم والمعرفة .