لم تكن ذاكرة الشعر في الأزمنة الماضية على استعداد لتلقف أيّ عابر، بل كانت الصرامة والشدة هما السمتان اللتان تميزان تلك الأيام عمَّا لحقها، حيث لا يستطيع الشاعر الهش اختراق تلك الحواجز والأسلاك الشائكة لمن أراد أن يتسلق أسوار قلعة الشعر ولم تكن مكتبة الرواية تفتح ذراعيها لأيِّ طالب شهرة لا يمتلك ما يؤهله أن يحظى بشرف الحفظ والنقل والإشهار والانتقال من ذاكرة إلى ذاكرة والدليل قلّة ما وصل إلينا الشعراء ممن عاشوا في تلك الحقب. ففي كلِّ زمن يبرز عدد قليل من الشعراء استطاعوا أن يجدوا لهم مقعدًا محترمًا في قاعة الشعر ولوحة شرفه.
وحين بدأ النشر كانت المنابر التي تستقبل الشعر تضطر إلى ألا تستقطب إلا الجيد من الشعر لضآلة المساحة الممنوحة لنتاج الشعر وكان الشعر حينها بناء على صرامة المحررين يمر بأزهى مراحله وبدأ الشعر بالتراجع شيئًا فشيئًا تبعًا لاتساع المساحة المتاحة لشعرائه ومحاولة ملء محرري تلك الفترة المساحة بالجيد وما دونه إلى أن وصل الحال بهم إلى تلقف أنصاف وأرباع الشعراء وبقية ذاكرة المُتلقِّي هي الحكم والمعيار الصَّادق والمنصف ولم تقبل بمن يسوقه المحرر من أشباه الشعراء وفي هذا الزمن الذي أتيح فيه للشعر من المساحة ما لم يُمنح من قبل وظل المُتلقِّي لا يقبل الأب الأصيل واللافت والمدهش.