قال أبو عبدالرحمن: يظلم نفسه جداً من يتصدَّرُ للتأصيل في أي حقل علمي، أو يتعنَّى لتحقيق مسألة مِن مسائله قبل أن يستوعب بالتحقيق العلمي (نظرية المعرفة والعلم)، وليست هذه النظرية غائبةً عن سلف أُمَّتنا، ولكنها غير مؤصَّلَة ولا مرتبة؛ فليس في تراثنا كتاب واحد باسم (نظرية المعرفة، أو نظرية العلم، أو هُما معاً)؛ فهذا معنى كونها غير مؤصَّلة
وهي في تراثنا في غاية التشويش؛ لأنها مُفَرَّقة في كتب علم الكلام، والفلسفة، والمنطق.. وهذه العلوم مذمومة في تراثنا، وعندهم أن مَن تمنطق تزندق، وكان شيخي عبدالرزاق عفيفي رحمه الله تعالى - فيما حدثني به الثقاتُ من خُلَّص تلاميذه - يُدرِّس المهمَّ من المنطق في بيته، وهم قلة من أذكياء تلاميذه المتمكنين في علم الشرع؛ وهذا حق في الجملة؛ لأنها: إما ظنون ورأي مُسْبَق، وإما محصورة في الغيبيَّات، وهي (الميتافيزيقا) عند الغربيين (بالغين المعجمة)، وهم لا ينظرون إلى (الميتافيزيقا) في الأعم الأغلب بإجلال أو احتفاء.. ومنها أمشاج في الحقول العلمية كأصول اللغة، وأصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول التاريخ، ومصطلح الحديث من جهة توثيق الثبوت والدلالة.. ولكنه لم يُحكم رَبْطُها بالنظرية الأمِّ (نظرية المعرفة والعلم) وإن كان للإمام ابن حزم في كتابيه الإحكام والفصل لفتاتٌ غير مُسْتوعِبة في الربط بينهما.. كما أنها محكومة بالرأي المُسْبق، وهو التقيُّد بمذهبٍ بعينه؛ فما كان منها في أصول الفقه مثلاً فهو محكوم بمذهب أحد أئمة الفقه المتبوعين، وما كان منها في الفلسفة أو علم الكلام أو المنطق فهو محكوم بأئمة المذاهب العَقَديَّة من معتزلة وأشعرية وصوفية وباطنية.. إلخ.. كما أنه محكوم بمذاهب الفلاسفة القدماء كأرسطو وأفلاطون.. إلخ.. وتأصَّلت النظرية عند الغربيين بالغين المعجمة بعد القرون الوسطى بأمد، وهي (بعد الحذر من التضليل المتعمَّد من الحسبانيين والملحدين، وبعد الحذر من تأثير التحريف في الأديان) عظيمة النفع في تحليل ملكات المعرفة، وحدودِها، ومعاييرها.. إلا أنهم جعلوها باسم (نظرية المعرفة)، والحق أنها نظرية معرفة تتبعها نظرية علم.. وهذه المعرفة هي الأصل الذي تتفرع عنه نظريات المعرفة والعلم في الحقول الثقافية والعلمية؛ وبيان ذلك أن نظرية المعرفة والعلم تحليل للمعرفة البشرية والعلم البشري، وإحصاء لمصادر المعرفة المُكْتَسبة، وإحصاء للملكات الفطرية التي تعرِّف وتعلِّم، وبيان لخصِّيصة كل مَلكة.. وهي عامة لكل ما تدركه غير مُقَيِّدة بخِصِّيصة كل حقل ثقافي أو علمي؛ وهي لذلك حرة طليقة إلا من القيود الفطرية التي تحكمها.. وهي غير مُقَيَّدة بمذهب عالمٍ بعينه، بل هي لمعرفة البشر وعلمهم كافة؛ فإذا انتقلت إلى حقل ثقافي أو علمي فهناك التقييد بمادة الحقل نفسه؛ فلا تُدخِل فيه ما ليس منه، ولا تخرج منه ما هو فيه، وتعتمدعلى استقراء مادة الحقل نفسه وشواهده بتصوُّر وفهمٍ غير مُكبَّل برأي مُسْبق ولا باجتهاد عالم بعينه؛ لأنك قد أحكمتَ نظرية المعرفة والعلم.. إلا أن المسألة التي لم تتفرَّغ لتحقيقها من مسائل الحقل تَرْكَنُ فيها إلى رأي جمهور علماء الحقل مُؤقتاً إذا لم تُخالف مُسلَّماتِك من النظرية العامة؛ فإن خالفتْ فإنك تركن إلى اجتهاد العالِم الأقرب إلى تلك المسلمات مؤقتاً، وتعقد العزم على تحقيق المسألة في وقت نشاط وفراغ.. وعند أسلافنا عشـر مُقدِّمات يسمونها (مبادئ العلوم) كبيان موضوع الحقل، وفائدته.. إلخ، ولكن ينبغي التقديم لذلك بوجه ارتباط الحقل بنظرية المعرفة والعلم، ووجه تقييده بالخصائص التي تُميِّزه.. والقرآن الكريم نصَّاً أو تفسيرَ نصٍّ يُوْرَدُ في صُلْب نظرية المعرفة والعلم؛ لأنه آية وبرهان وتذكير يُطالَب به العقل الإنساني المُشترك؛ لأن الله نزَّله تبْصرةً وحجَّة على العقول البشرية قبل أن يُلزمها بالأحكام الشرعية؛ فتحليل نظرية المعرفة والعلم ينطلق منذ ولادة الطفل ابتداء من الغريزة إلى الوعي إلى بدايات المعرفة ثم العلم؛ فإذا ذكرت قوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النحل/78] فأنت تذكِّر العقل الإنساني المشترك بما هو أمام حسه، وما هو مصدر معرفته، وعلمه.. وإذا أوردت قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء/ 36] فأنت تُنَبِّه العقل البشري إلى أنه أمام أمانةٍ برهانية وجودية خُلُقِيَّة تمنع من جَعْلِ غير المعلوم معلوماً، وهكذا قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل/14]؛ فهذا برهان يمنع من تغييب ما عُلِم.. وهكذا عندما تتناول نظرية المعرفة والعلم ناظراً إلى قوانين المُنْتَفي، والمُحتمَل، والمتعيِّن وتورِدُ مثلاً قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (37) [سورة الطور/35-37]: فإنك تذكر براهين تُخاطبلعقل البشري عن حتمية قانون السببية، وحتمية رجوعه إلى مُسَبِّب واحد، وهو برهان يعطي العقل البشري فرصةَ القولِ بعلم إن أمكنه ذلك: أن الوجود بغير سبب، أو أن تعاقب الأسباب بلا نهاية وبغير انتهائها إلى وحدانية المُسَبِّب، أو أن المشهود من السموات والأرض خَلْقُ أكثرَ من خالقٍ بالادِّعاء: كل ذلك يُمْكن تصوُّره أو لا يُمْكن؟!.. وأهم شيئ في هَضْمِ المعارف تصوُّرها، وهذا يُحَتِّم الرجوع إلى حقل علوم اللغة وأصولها لمعرفة معاني مفرداتِ نظريةِ المعرفة والعلم، وإلى معرفة الكَمِّ والكيف لمقدار ما يُعْرف ويُعْلَم، وهكذا مفردات كل فروع المعرفة.. ومن تلك المفردات: المعرفة، والعلم، والتفكر، والعقل، والذكاء، والذهن، والفهم، والتأمل، والإدراك.. إلخ، ومن المعرفة والعلم كمَّاً وكيفاً المعرفة والعلم بكل ما تستطيعه وسائلك من جوانب شيئ مُعَيَّن؛ وهذا يسمونه العلم من كل وجه، وعكس ذلك ما حَصَّلَتْه عن الشيئ من وجه أو بعض أوجه.. ومن ذلك العلم دون المعرفة، وهو ما أتصوَّره بالوصف بصفات أعرف معانيها، وأحكم فيها من علمي بحال الواصف صدقاً أو كذباً، إتقاناً أو وهماً.. ويلي المعرفة الجزئية بإحدى الحواس كمعرفتي شكْلَ التفاحة بالرؤية زيادةُ معرفة في الرؤية حينما أشقُّها فأعرف شكل داخلها، ويحصل لي زيادة معرفة بحس آخر وهو معرفة طعمها حينما أذوقها، ويحصل لي زيادة علم بالانتقال من الحس البسيط إلى الحس المركَّب الذي أعلم به قيمتها الغذائية.. إلخ.
قال أبو عبدالرحمن: وتنتقل بعد تحرير المعرفة والعلم إلى قوانينها المستنبطة من قانون الهُوِيَّة والعلاقات والمفارقات بين الهُوِيَّات.. ثم تنتقل إلى الأحكام، وهي الواجب المتعيِّن، والمُحال الممتنع، والمحتمل الممكن بلا مُرَجِّح، والمحتمل الذي يكون مُتَعَيِّناً بوجود المقتضي وتخلُّف المانِع.. ولكنَّ الإيمان بالله يجعله مُحْتملاً راجحاً؛ لأن المفاجأة التي لا نعلمها من إرادة الله سبحانه وتعالى: قد تسلب المقتضي، وقد توجِد المانع.. ويتبع هذا التقسيمُ صفاتُ العلم وعدم العلم من اليقين والرجحان والتوقُّف.. وفي نظرية العلم والمعرفة ثنائية التصوُّر والحكم (التصديق)، والواقع أن التصديق تصوُّرٌ إلا أن ما يُسَمُّونه تصوُّراً إدراك ساذَج بسيط كعلمي بطعم العسل؛ فهو حكم بحلاوته؛ فإذا قارنتُ بين حلاوة العسل ودبس التمر وقصب السُّكر كان ذلك تصوُّراً حُكْمِيَّاً للفروق بين حلاوتهن؛ فذلك هو التصديق في اصطلاحهم.. وفي نظرية المعرفة والعلم ثنائية الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان مع أنه لا وجود في الأذهان لغير موجود في الأعيان؛ فحينئذ تُفرِّق من غير نفي لما في الأعيان، فتقول أجزاء ما في الأذهان موجودة في الأعيان، ولكن الخيال ركَّب منها موجوداً لا نُثبت ولا ننفي وجوده في الأعيان؛ لأننا غير محيطين بما هو في الكون.. ثم ننتقل إلى المعايير التي هي أحكام في الأشياء نفسها غير ما سلف من قوانين المعرفة والعلم كالعدل، والإحسان، والضـرر، والنفع، والعبث، والحكمة، والصحة، والفساد.. ومآل كل ذلك إلى ثلاث قيم (المعايير) لا رابعة لها، وهي الحق والخير والجمال، وأضدادها، ويُحكم بها في الهُوِيات كالهذيان من مرض، والهذيان من كِبَر، والهذيان من جنون، والهذيان من بَطَر.. ثم تنتقل إلى وسائل نقْلِ معرفتك إلى الآخر: إما بتذكيره بشيئ يعرفه أو يعلمه؛ ليشارِكك في الحكم، وإما بتفهيمه ما لم يعرفه وما لم يعلمه بالوصف مما يعرفه ويعلمه.. وسبيل ذلك الحدُّ، وقد سفسط المتسفسطون في حكمهم بأنه يتعسَّر أو يتعذَّر أن يكون جامعاً مانعاً.
قال أبو عبدالرحمن: ليس البشر محيطين بحقائق الكون، وهم لا يريدون الجمع والمنع إلا لما عرفوه وعلموا به؛ فهم ينقلونه بالتعريف بالرسم ويستوعبونه بالحَدِّ بتذكُّرِهم كل ما عندهم من تصوُّر، وبالتقسيم وبالمثال الشارح، وبسطِ القول الذي هو شارحٌ التعريف الموجز، وبالاحتراز.. وباب كمال الحد مفتوحٌ أمامهم باستقبالهم كلَّ ما يُورد عليهم مما يرُدُّونه أو يستدركونه، ولا تُفْهم العلومُ ولا تستقرُّ إلا بالحدود، الذين أسرفوا في إنكار الحدود أخذوا بها مُذعنين في تَفَهُّم العلوم وتفهيمها، ومَنْ أنكر الضرورات أكثر التنقُّل.. وفي النظرية تنتقل من معرفة المحسوس إلى العلم بشيئ من أحواله الغائبة أو بأشياء، ثم تنتقل إلى التعرُّف على أشياء علمت وجودها بآثارها؛ وبما أن العقل وقواه والحواس كلها مخلوقة، والكائنات كلها مخلوقة: فإنك تنتقل بمقتضى الترتيب المنهجي إلى أخبار الخالق وبراهينه؛ لأنها هداية الخالق جل جلاله لما خَلَقه من المَدارِك، وعليك أن تُحقِّق الثبوت والدلالة كي لا تقول على الله بغير علم.. ثم تلتفت إلى المذاهب في نظرية المعرفة والعلم فتزنها بمعيار العدل إنصافاً وانتصافاً من خلال النظرية نفسها التي صرفتَ نشاط عمرك في تحقيقها، وههنا تحتفي بتحقيق آداب البحث والمناظرة (علم الجدل)، وتنفي الأوشاب في المنطق والفلسفة وعلم الكلام والميتافيزيقا الخرافية التاريخية؛ فإذا انتقلتَ إلى الحقول الثقافية والعلمية فلن تكون مستوعباً لها؛ لأن الله لم يجعل ذلك من قدرة فرد؛ وإنما واجب طالب العلم أن يكون جاداً في التصور العام للحقول والروابط والفوارق بينها من خلال مبادئ العلم التي أسلفتها، ولكن العالم الرباني يجب أن يكون من وُكْدِه - وهو غير معذور إن فَرَّطَ - أن يحقِّق العلم بربه جل جلاله من تحقيق العلم بأسمائه وصفاته وأفعاله الاختيارية، ومن أوامره ونواهيه، وما يقتضيه ذلك من وجوب عبادته وَفْق ما شرع من الإخلاص له، وصواب منهج الاجتهاد، وتحرِّي مُراد الله في الاجتهاد، والإذعان للقطعي الذي لا مسرح فيه للاجتهاد؛ وذلك بعد تحقيق الدلالة والثبوت والجمع بين النصوص.. وههنا يكون تحقيقُ التوحيد ببراهينه، وملاحقةُ شُبَهِ الكفر المحض، والشرك الوثني، والإلحاد في سبيل الله، والنفاق المظهرِ خلاف ما هو في الباطن.. وفي تقرير علم الجدل تُضيف إلى ما ذُكِر فيه من المغالطات: أن ضرورات العقل بديهياتٌ يُبْنَى بَعْضها على بعض؛ فإذحُذِف منها شيئ أو أُدْخل فيها شيئ اختلَّت نتيجة الفكر.. والعقل في تفكيره تجريبي رياضي، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.