في قرار غير منتظر، أعلن هنا الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة عن استعداد كتلة الحركة صلب المجلس التأسيسي لمراجعة التنقيحات التي أدخلتها على نظامه الداخلي وانجر عنها انسحاب المعارضة مرة أخرى من المجلس فيما اكتفى أعضاء حزب التكتل، ثاني أضلاع الترويكا الحاكمة، بتجميد نشاطاتهم إلى حين تراجع النهضة على التعديلات.
وكان الغنوشي الذي التقى مساء الاثنين برئيس اتحاد الشغل، الحسين العباسي الذي يقود الرباعي الراعي للحوار، عبر عن تفاؤله باستئناف جلسات الحوار الوطني في القريب العاجل، إلا أنه أقر بعدم التوصل إلى توافق بشأن المرشح لخلافة علي العريض على رأس الحكومة المنتظرة. وبدا للصحفيين المتابعين لاجتماعات الرباعي الراعي للحوار مع الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة، أن القيادات الحزبية أظهرت تفاؤلا بإمكانية العودة إلى طاولة الحوار في غضون الأسبوع الجاري في حال توصل الرباعي إلى حل وسط يرضي كافة الأطراف.
وكان الغنوشي أشار في تصريح صحفي مساء الاثنين إلى أن الكتل النيابية داخل المجلس اتفقت فيما بينها على « ميثاق شرف» يضمن تواصل سير أعمال المجلس إلى حين إحداث مجلس نيابي جديد ستفرزه الانتخابات القادمة. ولم يعلق قياديو المعارضة على هذا التصريح مما يدل على صدقيته من جهة وعلى رضائهم التام به، خاصة على خلفية قبول كتلة النهضة مراجعة التعديلات المدرجة ضمن النظام الداخلي للمجلس.
ويذكر أن أحزاب المعارضة كانت انسحبت من المجلس واشترطت إلغاء النهضة لجملة التنقيحات التي اعتبرتها «انقلابا ناعما على المجلس» لعودتها إلى مقاعدها صلبه. وبعد مشاورات مطولة استنزفت طاقات اليمين واليسار، وعلى ضوء تمسك نواب النهضة بما أقدموا عليه من تنقيحات يرونها طبيعية فيما يراها التكتل حليفها في الترويكا «خطا سياسيا جسيما»، وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود حسمه الغنوشي بإعلانه قبول حركته مراجعة التعديلات.
إلا أن الاستبشار الذي قوبل به إعلان الغنوشي فاق حده لاستناده إلى قراءة مغلوطة لكلام الرجل الذي قالها حرفيا:» مراجعة التنقيحات» وفهمها قياديو المعارضة ونواب التكتل على أنها تفيد إلغاء التعديلات كليا. وهو اختلاف على مستوى الفهم الإدراكي لكل فرد سوف تكون له ردود فعل سيئة بعد تفسيره أو بعد اصطدام الشق المعارض بالتنفيذ الصحيح لكلمة مراجعة.... وتتواصل في نفس الإطار وبعد الاطمئنان على العودة الوشيكة لنواب المعارضة وحزب التكتل إلى رحاب المجلس التأسيسي وقد تحققت مطالبهم، لا يكاد الحسين العباسي يجد متسعا من الوقت «لشم الهواء النقي» حيث تتسارع مشاوراته مع القيادات الحزبية في مسعى للتوافق حول شخصية مرشح وحيد لمنصب رئاسة الكومة الجديدة ، قبل الجلوس إلى طاولة الحوار الوطني مرة أخرى بإرادة صادقة على العمل على إيجاد الحلول الكفيلة بإخراج البلاد من عنق الزجاجة.
إلا أن ما يبدو من تسريبات وما يقرأ من وراء التصريحات السياسية المفرطة في التفاؤل، جعلت الخبراء السياسيين ينظرون باحتراز شديد إلى إمكانية استئناف الحوار هذا الأسبوع خاصة وأن ظروف إنجاحه تظل ضعيفة حسب رأيهم، حيث تسيطر الخلافات المتواصلة على شقي النزاع، حكومة الترويكا والمعارضة، فيما لم يسجل أي تنازل سواء من الطرف اليميني أو اليساري، بل إن المشاحنات أضحت علنية لا أحد يشك في دوافعها الحزبية الضيقة.
فالثابت أن الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها، باتت تشعر أن لا خيار أمامها سوى التوافق بعد فشلها الذريع في اللجوء إلى تحريك الشارع بعد أن اتضح للجميع أن التونسيين سئموا مماطلات النخبة السياسية ولم يعودوا يثقون في مراميها وبالتالي لم يعودوا يستجيبون إلى دعوات التظاهر الصادرة من هنا وهناك.
ولا تزال النخبة السياسية وتحديدا الأحزاب الصغيرة تنظر باستياء كبير إلى سعي أكبر حزبين في الساحة، حركة النهضة الحاكمة وحزب نداء تونس المعارض، إلى إقحام جهات خارجية في شان محلي داخلي، في إشارة إلى اللقاءات المتتالية التي أجراها الرئيس الجزائري بوتفليقة مع الشيخين السبسي والغنوشي الذين كثفا من مشاوراتهما مع الجانب الجزائري نافين أن يكون للجزائر دور أو رغبة في الإسهام في حل الأزمة الخانقة التي تمر بها تونس. ويتهم بعض قياديي المعارضة السبسي والغنوشي بتعمدهما المس من سيادة البلاد بما قد يجعل القرارات التونسية رهينة لما قد تحدده القوى الأجنبية من خطوط عريضة للمشهد المحلي. ويعتقد أغلب التونسيين أن الوساطة الجزائرية ليست سوى نزولا عند ضغوطات ورغبات القوى العظمى التي ساءها ما تردت فيه تونس من عدم استقرار وارتباك سياسي يهدد استقرار ويفتح الباب أمام انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة ، والتي لا تزال قوات الأمن والجيش في حرب بلا هوادة معها.
ويرى المراقبون للساحة السياسية أن التدخل أو الوساطة الجزائرية لن تؤتي أكلها باعتبار أن الخلاف بين طرفي الصراع يكتنفه الغموض وتسيطر عليه الضبابية التي استعصت على الفاعلين داخليا ويستحيل على أي طرف خارجي أن يجد لها حلا يرضي كل الأطراف. وجاءت الفضيحة التي فجرها أحد رؤساء الأحزاب الضعيفة والمنبوذة من عامة الشعب، بكشفه عن تلاعب عدد من نواب المجلس التأسيسي بأمواله وممتلكاته مقابل انضمامهم لحزبه، لتصب الزيت على النار المشتعلة، مما أثار حفيظة النخبة السياسية وعموم التونسيين الذين صدموا من درجة انهيار أخلاق الممارسة السياسية صلب المجلس باعتباره السلطة الشرعية الوحيدة القائمة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011.