دقت دراسة أجريت حديثاً ناقوس الخطر تجاه واقع حال الموانئ البحرية في المملكة، محددتا في هذا السياق العديد من العقبات التي تقف أمام تحسين بيئة وكفاءة تلك الموانئ والتي من أبرزها البنية التحتية الضعيفة نسبياً وعدم كفاءة مناولة البضائع، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى جعل عدد كبير من الشركات العالمية وحتى المحلية توجه عملياتها أو مراكز التوزيع الإقليمي لها إلى موانئ بعض دول الخليج المجاورة كدبي أو البحرين لتفادي تلك المشاكل. ومشددة في هذا الصدد على أهمية التحرك السريع من قبل الجهات المعنية بالموانئ بالعمل على تغيير جوهري في البنية التحتية والإطار التنظيمي وتقليل الأشرطة الحمراء وذلك لتهيئ بيئة صديقة للعميل والمستثمر.
وأشارت الدراسة، التي أجرتها شركة كاميلوت للاستشارات الإدارية وحصلت «الجزيرة» على نسخة منها، إلى أنه برغم من أن الواقع يؤدي إلى الافتراض أن المملكة لها النصيب الأكبر بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي في التجارة البحرية باعتبارها الدولة الوحيدة في المنطقة التي يحيط بها اثنان من طرق الملاحة الرئيسية هما الخليج العربي من الجهة الغربية والبحر الأحمر من الجهة الشرقية وبالتالي تربط الشرق بالغرب، إلا أنه على العكس من ذلك تماماً، حيث إن المملكة تملك فقط 9 موانئ رئيسية من أصل 35 ميناءً في الدول الخليجية، وفيها أقل تجارة بحرية للفرد الواحد في منطقة الخليج (18.792 دولاراً). وأضافت إن الفحص الدقيق لاقتصادات كل دولة من دول مجلس التعاون يكشف أن المملكة هي السوق الأكبر بكل وضوح في المنطقة، ولكن حتى مع ناتج قومي إجمالي يساوي 711 بليون دولار وعدد سكان يساوي 28.3 مليون (60 % من السكان في دول مجلس التعاون) فإن القيمة التجارية عبر موانيها فقط أعلى بقليل من تلك التي في الإمارات والتي لها أقل من نصف ما للمملكة من ناتج محلي قومي.
وأرجعت الدراسة السبب الرئيس لهذا الواقع إلى أن الإمارات قد أسست بنجاح الأطر والبنيات التحتية الأساسية لتصبح المحور الرائد للخدمات اللوجستية في المنطقة وخارجها، حيث إن ميناء جبل علي ذو الكفاءة العالية والتقنية المتطورة، هو ميناء الاختيار حتى للشاحنين السعوديين والمرسل إليهم في المملكة، وهو الأمر الذي أدى إلى إعادة تصدير حوالى 25 بليون ريال (1.76 مليون طن) من البضائع المتجهة للمملكة عبر ميناء جبل علي، بينما قيمة الصادرات من المملكة إلى الإمارات بهدف إعادة التصدير هي 117 بليون ريال (8.25 ملايين طن). كما لفتت إلى أنه وبسبب البنية التحتية الضعيفة نسبياً وعدم كفاءة مناولة البضائع والطلب الضعيف على موانئ المملكة، فإن الناقلات العملاقة التي تأتي من الساحل الشرقي ترسو في جبل علي أولاً، ومن ثم تقوم سفن الروافد بالشحن إلى المملكة، وكنتيجة لذلك، فإن هذا يؤثر على المرسل إليه البضائع بزيادة قدرها 2.5 % في تكاليف الشحن. وعلى الرغم من أن التحويلة عبر الإمارات تبدوا وكأنها خياراً منظوراً، بالمقارنة مع الشحن المباشر، فمن المؤكد أنها ليست الحل الأمثل حيث إن تأخيرات كبرى تصل في المتوسط إلى أسبوع واحد تشهد على الحدود الإماراتية السعودية.
وبينت أن الاستثمارات في الموانئ البحرية في المملكة بلغت في عام 2004 إلى حركة حاويات إجمالية 3.2 ملايين حاوية نمطية، بينما حركة الحاويات في جبل علي بلغت 6 ملايين حاوية نمطية. فيما تضاعفت في عام 2012 حركة الحاويات في كل من الميناءين، مما نتج إلى تناول جبل علي 7 ملايين حاوية نمطية إضافية على الموانئ السعودية، منوهة إلى أن تطورات الموانئ البطيئة نسبياً في السعودية كلفت هيئة الموانئ إيرادات إضافية محتملة بمبلغ 1.9 مليار ريال فقط من أنشطة مناولة الحاويات.
المشكلات في موانئ المملكة
حددت الدراسة عدداً من العقبات التي تواجه بيئة الموانئ السعودية، والتي لخصتها فيما يلي:
البنية التحية بالميناء
أشارت الدراسة إلى أن معدل استخدام سعة الحاويات في موانئ المملكة عالي جداً يصل إلى 95%، وذلك للموانئ المرتكزة على الحاويات والتي تتألف من ميناء جدة الإسلامي، ميناء الملك عبد العزيز في الدمام، وميناء الجبيل التجاري، حيث سبب الإستخدام والطلب العالي في اختناقات كبيرة في تلك الموانئ، إلى جانب ما تواجهه من مشاكل أخرى تمثلت في ضعف الروابط بين محطات الموانئ ما تجعل من الصعب المشاركة في البنية التحتية وهو مما يؤدي إلى الاختناقات، وكذلك العدد المحدود من مراسي المياه العميقة (وخاصة في الساحل الشرقي) يحد من عدد سفن الحاويات الكبيرة التي تستوعب 18 ألف حاوية نمطية (الناقلات العملاقة)، حيث نجد -على سبيل المثال- في الجبيل تصل فقط ناقلة عملاقة واحدة كل أسبوع مما يجعل الشاحنين إلى نقل بضائعهم عن طريق شاحنات إلى ميناء جبل علي لإعادة التصدير.
ومن المشاكل التي تواجه الموانئ السعودية، المناطق النائية غير المتطورة حولها حيث إن العدد القليل من المرافق اللوجيستية ذو المستوى المتدني حول الموانئ -على سبيل المثال- محطات الحاويات والستودعات وصلات النقل متعددة الوسائط لسكة الحديد والطرق البرية والجوية، تسبب تأخيرات كبيرة ومشاكل بالنسبة لمستلمي البضائع والشاحنين. وأيضاً سعة الحاويات المنخفضة في موانئ الساحل الشرقي، خاصة في ظل توقعات بأن تشهد حركة النقل في الساحل الشرقي زيادة كبيرة حيث إن غالبية وجهات التصديرالرئيسية توجد في شرق المملكة، وهو ما يستلزم رفع سعة الموانئ للحاويات على طول هذا الساحل جنباً إلى جنب إلى تطوير البنية التحتية اللوجستية للتعامل معها بفعالية.
إجراءات الجمارك
وبحسب الدراسة، فإنه ينظر إلى جمارك المملكة كعائق للتجارة، حيث إن لها ممارسات غير معيارية ينتج عنها عدم الكفاءة لشركات خطوط الملاحة والشاحنين والمشاركين الآخرين، ومن ذلك التفتيش اليدوي حيث تخضع جميع الحاويات بما في ذلك الحاويات الفارغة، للمسح بالأشعة السينية، والكلاب البوليسية والتفتيش اليدوي، إضافة إلى الفترات الزمنية الطويلة الناتجة عن التفتيش، وتضرر 10-15% من الشحنات بسبب سوء التعامل مع البضائع أثناء التفتيش. ومن ممارسات غير معيارية القيود اللغوية فجميع وثائق الشحن يجب ترجمتها إلى اللغة العربية بسبب محدودية نظام الجمارك، وتزداد الفترات الزمنية لأن الشحنات يجب أن يتم تخزينها في مباني الميناء من 3 إلى 5 أيام قبل تاريخ الشحن من أجل الانتهاء من الإجراءات البيروقراطية والإجراءات التي ليست لها قيمة مضافة. وأيضاً التفتيش المتعدد حيث نجد أن العديد من السلطات، غير سلطات الجمارك، تشارك في عملية التفتيش وخاصة في الشحنات المستوردة وفقاً للفئة، على سبيل المثال: هيئة الغذاء والدواء، وزارة الثقافة والإعلام، وزارة التجارة والصناعة... إلخ.
حركة الحاويات والناتج القومي
من المتوقع أن يرتفع الناتج القومي الإجمالي للمملكة بحوالي 220% في العقدين القادمين، وحيث إنه يرتبط مباشرة بحركة الحاويات، فإن زيادة كبيرة بحوالي 57% في حركة الحاويات متوقعة تصل إلى 9 ملايين حاوية نمطية بحلول عام 2020، في حين نجد أن سعة الحاويات الحالية في المملكة لن تكون قادرة على التعامل مع الحجم المستقبلي حيث تبلغ 6 ملايين حاوية نمطية.
وأوضحت الدراسة أن الضغط المتزايد على البنية التحتية للنقل في المملكة أثارت الحاجة إلى خطط لزيادة السعة في المناولة، وهو ما تم مؤخراً حيث اعتمد العديد من مشروعات التوسعة وأيضاً إنشاء موانئ جديدة، تتصدرها ميناء مدينة الملك عبد الله الاقتصادية (10 ملايين حاوية نمطية في العام 2019)، توسعة ميناء الملك عبد العزيز في الدمام (+1.5 مليون حاوية نمطية بحلول العام 2015)، وميناء مدينة جازان الاقتصادية، والتي ستوصل السعة الكلية في المملكة إلى 21 مليون حاوية نمطية بحلول العام 2019. وترى الدراسة أنه على الرغم من أن الموانئ السعودية من الناحية النظرية سيكون لها السعة الكافية للتعامل مع حجم الحاويات المتوقعة في المستقبل، إلا أنه يتوجب أن تقوم بتغيير جوهري في البنية التحتية والإطار التنظيمي وتقليل الأشرطة الحمراء وذلك لتهيئ بيئة صديقة للعميل والمستثمر.
حلول تحسين الموانئ
وفي ظل واقع حال الموانئ البحرية في المملكة، طرحت الدراسة أمام الجهات المعنية عدد من الحلول الأساسية التي تعالج القضايا الرئيسية التي تؤثر على مستخدمي هذه الموانئ، من أبرزها ضرورة العمل على تطوير المناطق النائية حول الموانئ بناءً على مناطق لوجستية جمركية وذلك لتسهيل شحن البضائع، الاستثمار في أجهزة تقنية الأفضل -على سبيل المثال- أجهزة فحص متطورة لعمليات التفتيش السريع، وتعزيز تغلغل الشراكات بين القطاعين العام والخاص ومن ذلك على سبيل المثال في التفتيش الجمركي.
ومن الحلول المقترحة، تبسيط التخليص بواسطة مكتب واحد للجمارك بدلاً عن جهات مختلفة عن طريق تعليم وتدريب ضباط الجمارك، تشكيل مجالس بين رواد الصناعة ووزارة التجارة والصناعة وسلطات الجمارك بحيث يمكن تبادل الأفكار حول سبل المضي قدماً. وأيضاً إعادة تصميم قوانين الجمارك وفقاً لقوانين الجمارك في مجلس التعاون الخليجي، والنظر في إمكانية الأخذ بمفهوم «الشريك الموثوق» بحيث أخذ عينات من الشحنات لتفتيشها بدلاً من التفتيش الكامل للشحنة، إلى جانب تقليص الشريط الأحمر في الأنظمة والقيود.
تسريع خطوات التصحيح
وترى الدراسة ضرورة تسريع الخطوات الحكومية لتصحيح حال الموانئ البحرية، خاصة وأن المملكة تقع في موضع ممتاز جغرافياً واقتصادياً مما يؤهلها لتصبح أحد النقاط التجارية الرئيسية في العالم، ذلك أن عدد سكانها وموقعها والصناعات الناشئة والصناعات المحلية المتقدمة عالمياً جميعها تعتبر مؤشرات لمستقبل باهر للمملكة في مجال التجارة. كما أن ذلك سيسهم في طمأنة اللاعبين الأساسيين المحليين في جميع القطاعات الرئيسية (البتروكيماويات، الأدوية، والسلع الاستهلاكية) في المملكة المنخرطين في التجارة الإقليمية أو العالمية، إلى جانب المستثمرين الأجانب، الذين أبدوا قلقهم وقضاياهم الخاصة بسوء حالة الموانئ البحرية في المملكة، خاصة وأن ذلك قد أدى إلى عدد كبير من الشركات السعودية والشركات العالمية أن تجعل عملياتها أو مراكز التوزيع الإقليمي لها في دبي أو البحرين لتفادي مشاكل الموانئ.
وأكدت الدراسة أن تحسين الموانئ البحرية السعودية سيلعب دوراً حاسماً في التطويرات الخاصة بشبكة السكك الحديدية لدول مجلس التعاون الخليجي والتي تبلغ قيمتها 200 بليون دولار، معتقدة في هذا الصدد أن السكك الحديدية يمكن أن ينظر إليها على أنها وسيلة مواصلات مكملة وتنافسية للتجارة عبر المملكة، فإذا لم يتم تحسين بيئة الموانئ البحرية، فإن دول أخرى ذات عمليات موانئ أكثر كفاءة سيتم اختيارها كنقاط للدخول أو المغادرة مما يؤدي إلى فقدان الفرص للمملكة.
ومن ناحية أخرى إذا تم تحسينها فإن المملكة ستبرز كالسوق اللوجستي القائد في الخليج العربي.. كما أشارت إلى أن تحسين حالة الموانئ البحرية السعودية والأنظمة الخاصة بالجمارك هو عامل النجاح الرئيس لتحقيق الازدهار للمملكة لأنها تعمل على استدامة وتمكين النمو للصناعات غير النفطية المحلية، إلى جانب أن ذلك سيجلب منافع إضافية تتمثل في خلق الوظائف حيث هناك رابط مباشر بينها وبين النمو في حجم المناولات في الموانئ. ومن المتوقع زيادة كبيرة في الوظائف في شركات الخدمات اللوجستية وخدمات سلسلة التوريد بسبب الاستثمارات الناشئة المتعلقة بالموانئ، والحاجة إلى الخدمات ذات الجودة العالية، والوعي المتزايد في المملكة عن أهمية فعالية سلسة التوريد.. حيث من المقدر أن تسهم مشروعات الموانئ في المملكة في إيجاد نحو 30 ألف وظيفة مباشرة، إلى جانب أن تحسين بيئة الموانئ سيوفر وظائف غير مباشرة عن طريق عودة الشركات السعودية إلى المملكة، وجذب الشركات العالمية. ومن المنافع أيضاً ارتفاع الناتج القومي الإجمالي كلما زادت التجارة البحرية باعتبار الأول مرتبط مباشرة مع حركة الحاويات، إضافة إلى أن زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة ستجلب التقنية المتطورة إليها والخبرات الفنية إلى المجتمع المحلي.