هذا سؤال طرحه “سقراط “، وظلَّ صداه يتردَّد عبر القرون ومازال، وهو في نظري إن كان مهمًا فيما مضى فهو اليوم أكثر أهمية وأشد إلحاحًا، لأننا باختصار أمام سيل من التناقضات في سبل الحياة.. ونواجه في حياتنا الشخصيَّة فضلاً عن المجتمعية كمًا كبيرًا من التحدِّيات والممانعات.. كما أننا نقابل حين سيرنا للوصول إلى أهدافنا التي نطمح ونتطلَّع للوصول إليها منعطفات وتعرجات، البعض منها طبعي جراء إيقاع الحياة السريع والمتسارع، والبعض الآخر -وللأسف الشديد- هو بفعل فاعل لسبب أو لآخر، وبعيدًا عن التشخيص للحال التي يعاني منها الكثير من بني الإنسان في حياتهم الخاصَّة، ودون الدخول في تفاصيل هذا البحر الذي لا ساحل له، أرى من المهم أن يكون هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف اليوناني المعروف محل تفكير كل منّا وفي دائرة اهتمامه بشكل كبير وبصورة دائمة، حتَّى يكون هو الدليل والقائد الذي يعيده إلى جادة السير الصحيح، متى ما راجت به تقلُّبات الأحداث فأثرت على توازنه، أو خطفته الأضواء بعيدًا عن منهج الحياة الأمثل، أو صرفته الظروف وجرته النوازل والفتن إلى معارك جانبية وصدمات ثنائية أو حتَّى جماعية.
هناك منّا من يغريه واقعه المعيش فينصرف عن آخرته بالكلية، ويظل يلهث وراء بريق المال دون تفريق بين حلال وحرام، ومع أن ما يملكه يكيفيه هو وذريته “أولاده وأحفاده ومن في صلبهم” من بعده إلا أنّه يسأل المزيد، ويسعى إلى التكاثر والتفاخر حتى ولو على جماجم الأخرين، وقد يفاجئه القدر وهو لم يستمتع بما ملك، ولم يقدم لآخرته ما ينفعه.
وهناك من الناس من يبحث عن الوجاهه والتصدر بأي ثمن، فتراه يترزز ويتنقل في المجالس والمنتديات، ويبحث عن التجمعات والملتقيات، وينظم في سلك هذا الحزب أو ذاك، ويكتب ويغرد وينشر ويحلل ويرشد، وربما صار ضمن منظومة خاصة الخاصَّة “يقرأ القرآن، وينفق المال، ويقاتل في الصف” طمعًا في إشباع النقص الذي يجده في نفسه جراء شعوره بحاجته الماسَّة للتواجد والحضور المجتمعي لمجرد إثبات الذات ليس إلا “ليقال.. وقد قيل”.
وصنف ثالث ظن الحياة لهوًا ولعبًا وزينة وتفاخرًا وتكاثرًا في الأموال والأولاد فصار يبحث عن إشباع رغباته الجسدية بلا ضابط أو رادع من ضمير، حتَّى وصل به الحال إلى البحث عن جديد يفعله يُخرجه من دائرة الألف إلى التجديد والتغيير، الذي هو مطلب نفسي ملح لدى الإِنسان، وساقه هذا كلّّه إلى الوقوع في دائرة المحضور شرعًا وعرفًا وسنا!!.
وهناك منّا من انصرف إلى حياته الوظيفية أو أعماله الخاصَّة بكامل قواه العقلية والجسدية، وأهمل نفسه وأسرته بشكل كبير، حتَّى صارت علاقته بهم وعلاقتهم به أقرب إلى الرسمية منها للعائلية ذات البعد الحميمي القائم على المودة والرحمة، وربما أضحت وسائل التواصل الاجتماعي هي حلقة الوصل بين أفراد الأسرة الواحدة، الذين يعيشون تحت سقف واحد، ونسي صاحبنا وغاب عن باله أن أحق الناس بصحبته هي “أمه”، ولم يكترث بزوجته وأولاده مع أن خيرنا خيرنا لأهله “وأنا خيركم لأهلي” بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسَّلام.
وهناك... وهناك... أصناف وأجناس، ويعود السؤال من جديد، وهو في هذه المرة موجِّه لك أنت.. “ترى كيف أنت عايش؟ وكيف ينبغي أن تعيش؟.
هذا السؤال المركب يجب عليك وأنت تبدأ عامك الهجري الجديد أن تطرحه على نفسك بكلِّ جرأة وشفافية ومصداقية ووضوح.. لا بُدَّ أن تشخص واقعك، وأن تحدد كيف ينبغي أن تحيا، وهذا يعني وجوبًا أن تسأل نفسك هذه الأسئلة الخمسة:
ترى من أنا، وماذا يعني كوني مخلوق لله وتحت قيوميته واتحرّك بإرادته ومشيئته، وواجب على عبادته كما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وهل اختلف في حياتي عن غيري ممن لا ينتظمون في دوائر الانتماء التي اخترتها بإرادتي الشخصيَّة، خاصة “دائرة الإسلام”؟
ما طبيعة الحياة الدنيا وصورته الحقيقية عندي، في ضوء ما قال عنها خالقها وموجدها سواء في كتابه أو على لسان رسله عليهم الصلاة والسَّلام؟.
كيف هي علاقتي بالآخرين من حولي، وما القيم التي تحكم سلوكي حين سيري في جنبات أرض الله الواسعة وتعاملي مع خلق الله الكثر القريب منهم والبعيد، ....؟
ماذا أعتقد فيما سيكون لي بعد هذه الحياة، وهل ما أفعله هنا سيؤثِّر على ما أجزم أنه مستقبلي الحقيقي؟.
كيف لي أن أحقق التوازن في المعادلة الأصعب “الرغبات، والضوابط” في ظلِّ عالم يموج، وأمواج تتلاطم، ومد وجزر لا ينتهي؟.