(1)
فجعنا البارحة بوفاة الصديق د. سلطان باهبري إثر سكتة قلبية داهمته في لندن، يرحمه الله.
وقد اكتظ تويتر عبر هاشتاق (وسم) وفاة الدكتور سلطان باهبري، بالأحزان والذكريات والمواقف والتعازي. وكان لوقع الخبر المفاجئ، لإنسان اشتهر لدى كل من كان محظوظاً بالتعرف عليه بأنه شعلة دائمة من الحيوية والتفكير والفعالية، أثر مضاعف في حجم الفجيعة وألم الفراق لإنسان مميز واستثنائي.
وضع الصديق الناقد حسين بافقيه تحت وسم العزاء تغريدة موجزة فيها البيت الشعري الشهير:
والموت نقّاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
هل كان يعني الشاعر العباسي ابن النبيه أو الناقد بافقيه حذافير المعنى الظاهري لهذا البيت بأن الموت فعلاً ينتقي ضحاياه من بين أكوام البشر، مثلما يردد العوام أيضاً بأن الموت ما يأخذ إلا الطيبين؟!
بالطبع لا أحد يؤمن بهذا، بل الكل يؤمن بأن الموت هو القدَر الوحيد الذي سيذوقه كل الناس.. «اللي يستاهل واللي ما يستاهل واللي يسوى واللي ما يسوى»!
لكن هذا الإحساس حيال انتقائية الموت يخالجنا عندما يموت (المميزون) لأننا نشعر بموتهم ونفجع بغيابهم الذي يُحدث فراغاً يقلقنا، ما عدا ذلك فإن آلافاً بل ملايين يموتون كل يوم دون فراغٍ بعدهم.
الخلاصة ؛ إذا كنتَ في حياتك شبه ميت سيشعر الناس عند موتك بأنهم فقدوا إنساناً شبه حي!
(2)
تعرّفت على الفقيد الغالي سلطان باهبري قبل خمس وثلاثين سنة حين كنا طلاباً في الثانوية ثم في الجامعة، وكان سلطان منذ ذلك الحين وحتى يوم أمس، يرحمه الله، ليس مخزناً للمعلومات فقط بل وماكنة ذكية لتحليل وتفكيك تلك المعلومات الغزيرة وربطها ببعضها.. وفق سياقاتها التاريخية والثقافية.
استمر التواصل بيننا حتى عندما ذهب إلى البعثة في كندا، وكنا نلتقي في زياراته للرياض ونتحدث كثيراً عن هنا وهناك، وكان يطلب مني أن يرجع إلى كندا ومعه لي مقال ينشره في إحدى المطبوعات الطلابية هناك، وما زال في ذاكرتي منها مقالي: «صحافة شيخ القبيلة»!
ثم التقينا وظيفياً مرتين، الأولى قبل 27 عاماً في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، هو في المستشفى وأنا في مركز الأبحاث، وكانت المصادفة أنه كان يعمل في المستشفى مع الطبيب والباحث الأمريكي التركي بينار أوزاند، يرحمه الله، الذي كنت أعمل معه أيضاً في مركز الأبحاث، وكنا نلتقي سلطان وأنا في ساعة الغداء بمطعم المستشفى ونتحدث عن هنا وهناك ونحن وهم. ثم التقينا ثانيةً قبل خمس عشرة سنة في مقر عمل مشترك هو (مجلة المعرفة) عبر مؤسسة روناء للإعلام المتخصص، فكانت تلك الفترة هي الأكثر إثراء لعلاقتنا الثنائية المليئة بالنقاشات الهادرة والاتفاقات والاختلافات حول تفسير ورؤية وتحليل ما يجري حولنا في الوطن والكون، ونتحدث عن هنا وهناك ونحن وهم وهو وأنا. لكن كنا نخرج دوماً من ذلك اللقاء الحامي ونحن شبه تواعدنا على لقائنا القادم.
كان أكثر ما يجذبني في سلطان باهبري أني أختلف معه كثيراً، وكان هو يفرح بذلك حتى يساعده هذا الاختلاف في وجهات النظر على صنع المزيد من التحليل والتأويل بقدراته الفذة. وكنت أنا أيضاً أفرح وأنتفع بهذا الاختلاف الذي يمنحني مزيداً من الرؤى والفذلكات الباهبرية.
في باريس، تواصلت اللقاءات بيننا من خلال وقفاته الباريسية العابرة في طريقه إلى الولايات المتحدة أو غيرها، وكان لقاؤنا غالباً على الإفطار الصباحي قبل أن يخرج إلى المطار ليكمل الرحلة. وكنا نناقش، على الريق، ما يستعصي هضمه وسط النهار فكيف باستساغته على الريق؟ لكن سلطان الذي لا ينام عن التفكير والتأمل لا يعرف شيئاً في التفكّر اسمه الريق!
كان سلطان نموذجاً فريداً للنجاح في جمع المعادلة الصعبة: رجل دين ودنيا معاً. كان هو، في روحانيته وفعاليته، أسطع مثال رأيته لما جاء في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
والدنيا عندنا كالعقد الثمين المرصّع بالجواهر، كلما سقط منه جوهرة خفّ وزنه وقلّ ثمنه، وهكذا هي الدنيا كلما سقطت منها الوجوه الغالية علينا من الأقارب والأصدقاء، رخصت في أعيننا وقلوبنا.
(3)
لم يكن سلطان باهبري إنساناً عادياً، ولذا فموته لن يمر عليّ مرور الكرام.
رحمك الله أيها الصديق العزيز والرجل الفذ، نحن والله مفجوعون فيك، وكلماتنا ودموعنا مهما تقاطرت فإنها لا تعبّر عن الحزن الذي في قلوبنا عليك.
اللهم صبّر أهله وأحبابه، وهم كثر، على فجيعتهم في فقده، وارحمه اللهم بواسع رحمتك وغفرانك وأسكنه فسيح جناتك، واجمعنا به في مستقر رحمتك كي نستكمل أحاديثنا، ليس عن هنا وهناك، بل عن هَناك الذين نرفل فيه بفضلك يا رب.