من هذان؟
إنهما قوتان تتصارعان في النفس البشرية. إحداهما قوة الحياة والحب، هذه إيروس، أما الأخرى – ثاناتوس – فهي قوة الموت والدمار. هذه من نظريات العالم النفسي الشهير سيغموند فْرويد، وقال إن إيروس يدفع عجلة الحياة بينما ثاناتوس يحاول سحقها، ولكن فعلياً فإن هذه الفكرة تسبق فرويد بكثير، فهاتان القوتان أصلهما من الأساطير اليونانية القديمة، وهناك كان لهما نفس المعنى، ولمئات السنين أثارت هذه الفكرة خيال الشعراء والرسامين، فظهرت الكثير من اللوحات الفنية التي تصور هاتين القوتين وهما تصطرعان داخل نفس الإنسان، وصوّروا ثاناتوس تصويراً مظلماً مخيفاً يتناسب مع معناه وأفعاله، وفي الشِّعر أتى هذا المعنى في ملحمة الإلياذة والأوديسا، فهناك الكثير من الآلهة التي اخترعتها عقول اليونانيين القدماء، منهم إله الحرب إيريس والظلام أريوس والليل نِكس والشيخوخة غيراس وحتى أشياء صغيرة مثل اللوم صنعوا لها إلهاً (موموس)!
مِن هذه الآلهة المزعومة التي اخترعوها إيروس إله الحب وثاناتوس إله الموت، وهما قوتان متناقضتان أشار لهما الشاعر الإغريقي هسيودوس، فقال إن ثاناتوس هو الأخ التوأم لهيبنوس إله النوم، وكذا قال أشهر الشعراء اليونانيين هوميروس، وعندما أتى الطبيب النفسي فرويد بعد هؤلاء الإغريق بألفين وخمسمائة سنة أخذ فكرة القوتين المتعاكستين وأزال منهما جانب الألوهية وحوّل الفكرة إلى نظرية نفسية، فأما إيروس فهي روح الحياة والحب، وأما ثاناتوس فهي القوة المظلمة التي تجعل البشر يفعلون أشياء تقربهم من الهلاك حتى لو كانت للمتعة مثل الهوايات الخطرة –تسلُّق الجبال إلخ-، وحتى العدوانية تُعتبر من أوجه ثاناتونس، ورغم شهرة فرويد وتأثيره العميق على الطب النفسي إلا أن هذه النظرية لا تؤخذ أنها صحيحة ومفسّرة لأفعال البشر، لا سيما وأن الطب النفسي اليوم يجد تفسيرات أسهل وأصح من هذه، فالمرء مثلاً عندما يستنشق جرعة من مخدر فليس هذا استسلاماً لقوة ثاناتوس المظلمة وإنما هو يبحث عن لذة سريعة وإن أضرته وأهلكته لاحقاً، ورغم عدم صحة النظرية علمياً إلا أننا لو نظرنا لها بشكل أعم لرأينا فيها تشابهاً مع الكثير من الأفكار الأخرى، فمثلاً من الأفكار التي أتى بها الصينيون هي فكرة يِن و يانغ أي القوى المتعاكسة في الكون مثل الحرارة والبرودة والذكر والأنثى والخير والشر، أما إذا خرجنا من حقل الأساطير اليونانية والنظريات الطبية المغلوطة فإنني أرى أن أصل هذه الأفكار هو أنها استعيرت أو سُرِقَت من دين الله، فهناك جانب الخير وهو حزب الله سبحانه وهذا جانب الملائكة والأنبياء والصحابة وغيرهم من قوى الخير، وهناك جانب الشر وهو حزب الشيطان بما يحويه من طغاة ووثنية وإجرام، وهذه الفكرة تسبق كل هؤلاء بكثير، فتعلمها آدم عليه السلام من ربه ومن ثم نوح عليه السلام وهكذا بلَّغَها الأنبياء إلى أقوامهم، وأظن أن اليونانيين وغيرهم سرقوا هذه الفكرة من الأنبياء ونسبوها إلى حضارتهم بعد تشويهها بوثنيّتهم، وإلا فقد روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منْكُم مِن أحدٍ إلَّا و قد وُكِّلَ بهِ قرينُه من الجِنِّ ، وقرينُه من الملائكَة»، فالأصل هو الشيطان القرين داخل الإنسان الذي يدفع صاحبه للشر -وهو ما أسموه ثاناتوس فيما بعد- وهناك المَلَك القرين الذي يحث الإنسان على الخير، وهو ما أسموه إيروس.