عندما أعلن الحسين العباسي رئيس اتحاد الشغل عن انطلاق الحوار الوطني بصفة رسمية بحضور كافة الأحزاب السياسيَّة التي وقعت يوم 5 أكتوبر الجاري على خريطة الطريق، إثر تسلمه رسالة تتَضمَّن تعهدًا كتابيًا باستقالة حكومة الترويكا وفق التواتر الزمني الذي حددته الخارطة، صفقت أحزاب المعارضة فرحًا وعادت إلى قاعة جلسات الحوار بعد أن كانت انسحبت منها قبل يوم...وبقدر استبشار جبهة الإنقاذ المعارضة بخبر تعهد علي العريض باستقالة حكومته وفق الرزنامة التي حددتها خريطة الطريق، واعتبارها حكومة مستقيلة منذ وصول الرسالة - الحلم، التي طال انتظارها بالنسبة إلى شق المعارضة، بقدر ما ازدادت مخاوف المحللين السياسيين من لجوء حركة النهضة الحاكمة إلى المناورة من جديد.
ومما ضاعف من مخاوف بعض السياسيين والملاحظين، أن المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة خرج ليوضح للرأي العام أن علي العريض لم يغيّر مواقفه في مضمونها وخطوطها العريضة.
وأضاف عبد السَّلام الزبيدي أن مواقف العريض ثابتة وواضحة وتؤمن بتلازم المسارات كما تنص عليه خريطة الطريق، مضيفًا أنّه عند الانتهاء من صياغة الدستور والمصادقة عليه والانتهاء من تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات والمصادقة على القانون الانتخابي يمكن اعتبار حكومة الترويكا حكومة تصريف أعمال..
وفي المقابل، أكَّدت جبهة الإنقاذ في بيانها الأخير لحظات قبل دخول اعضائها قاعة جلسات الحوار الوطني، بانها تعتبر حكومة علي العريض مستقيلة ابتداء من الجمعة وبالتالي فهي حكومة تصريف أعمال وفق رايها.
وهنا نقطة الخلاف الجوهرية التي يَرَى المحللون السياسيون أنها إستراتيجية تحدد مصير الحوار الوطني في قادم الأيام.
والحقيقة أن السياسيين الذين انطلقوا من رسالة علي العريض إلى الرباعي الراعي للحوار ليغيِّروا مواقفهم 90 درجة كاملة، سوف يصطدمون بجدار صد منيع عندما يمرون إلى مرحلة تنفيذ بنود خريطة الطريق الأسبوع المقبل.
فقد عزم قياديو المعارضة على تفعيل ما تنص عليه مبادرة اتحاد الشغل التي تستجيب في كلِّ فصولها على طلباتهم الملحة التي يتمسكون بها منذ أواخر شهر يوليو غداة اغتيال السياسي محمد البراهمي والجنود الثمانية على أيدي الجماعات الإرهابيَّة.
إلا أن أصوات تتعالى هنا وهناك لتنبه إلى أن رسالة رئيس الحكومة إلى الرباعي الراعي للحوار فيها الكثير من الغموض الذي يفتح الباب على مصراعيه للالتباس في المفاهيم الساتر للعقول والمانع للعيون من النفاذ إلى الحقيقة.
والغريب أن الرسالة- الحدث، أصابت بعض وزراء الترويكا بالصدمة فقد أشار عبد الوهاب معطر وزير التجارة، الذي يوجد في مهمة خارج الوطن، إلى أنّه «لو صح خبر خضوع العريض للابتزاز وقبوله باستقالة الحكومة قبل الانتهاء من التصويت على الوثائق التأسيسية وعلى رأسها وفي مقدمتها الدستور، فإنَّ ذلك سيكون أخطر منعرج ستشهده المسارات الثورية وسيكون الخطوة الحاسمة للتأسيسي للانقلاب والثورة المضادة».وفي المقابل، تنشط الأدمغة داخل السلطة وخارجها لطرح أسماء لشخصيات مستقلة تترأس حكومة الكفاءات التي يتعين تشكيلها حال رحيل حكومة الترويكا، حيث تَمَّ اقتراح أسماء عديدة أبرزها عبد السَّلام الزبيدي وزير الدفاع المستقيل من حكومة الائتلاف الذي يحافظ على عدم انتمائه لأيِّ طيف سياسي، وتتشبث به بعض الأطراف لخلوه من الالتزامات المهنية واستجابته للمقاييس التي تحدّدها الأحزاب الفاعلة ومنها التفرغ لخدمة البلاد بالليل والنهار.صلب النهضة لم يسجل وقوع أيّ اشكال بعد إرسال مكتوب علي العريض لاقتناع النهضويين بأن المشهد السياسي القادم سيعرف توافقات جديدة ربَّما تسهم في لملمة الأمور وتجاوز الأزمة. الحسين الجزيري القيادي بالحركة صرح بأنّه من الممكن حصول تحالفات بين النهضة والدستوريين في حال انفصال هؤلاء عن التجمعيين، وهو ما يؤكد تخوفات البعض من صفقات تحت الطاولة ترعاها النهضة الحاكمة ويكون نداء تونس بطلها استنادًا إلى اللقاءات «الأخوية جدًا» التي عقدها مؤخرًا قياديو الحزبين الأبرز على الساحة المحليَّة.
ولئن كان الحوار يسير في جوٍّ مشحون من التوتر والاحتقان وقلّة الثقة المتبادل بين طرفي النزاع، فإنَّ المراهنين على فشله يعتقدون أن النوايا الطيبة من الجهتين مفقودة تمامًا، وكل شق يسعى إلى توريط الشق الآخر مهما كان الثمن. إلا أن المتفائلين يتوقفون مطولاً عند رسالة رئيس الحكومة ليعلنوا أنها طوق النجاة الذي سيجنب تونس كل السيناريوهات المرعبة التي كانت تترصدها، متجاهلين خطر الإرهاب الذي لا يزال يضرب بقوة ويحصد الأرواح كل يوم..
في جانب آخر، سيطرت على نشرات الأخبار أنباء عن قرارات نقابات الأمن التي اجتمعت ظهر الجمعة وأصدرت بيانًا أعلنت فيه أنها ستمهل حكومة الترويكا 48 ساعة تنتهي اليوم الأحد لإقالة المديرين العامين الذين تَمَّ تعيينهم بناء على الولاءات الحزبية، بالإضافة إلى اعتزام النقابات تقديم قضية عدلية ضد رئيس الحكومة علي العريض بتهمة المشاركة في القتل على خلفية الأحداث الإرهابيَّة التي سجَّلت مؤخرًا وراح ضحيتها عدد من أعوان الحرس.في غضون ذلك تعيش مختلف جهات البلاد على وقع استنفار أمني غير مسبوق تجلَّى بالخصوص في الانتشار الأمني الكبير في الشوارع وعلى الطرقات عبر دوريات مشتركة بين الأمن والجيش لحماية الناس وفي مسعى جدي لإلقاء القبض على العناصر المفتش عنهم والضالعين في العمليات الإرهابيَّة.تأتي هذه التعزيزات على ضوء ما تَمَّ الكشف عنه من مخططات إرهابية تستهدف المنشآت الأمنيَّة ووزارات السيادة وبعض مقرات إعلاميَّة خاصة، في مواقع الحوادث افرهابية خلفها المسلحون وراءهم عندما لاذوا بالفرار إثر ملاحقتهم من طرف الشرطة والعسكر.
ويشعر التونسيون اليوم بأنّهم اضحوا أكثر اطمئنانًا في ظلِّ الوجود المكثف لقوات الأمن والجيش المتمركزين في مداخل المدن وأمام الفضاءات التجاريَّة والمؤسسات العمومية تحسبًا لوقوع أيّ حوادث وحرصًا على إيقاف كل مشتبه به.
وتبث وسائل الإعلام المختلفة على مدار الساعة دعوات وزارة الداخليَّة للتونسيين بضرورة الاستجابة لطلبات اعوان الشرطة بالليل والنهار تجنبًا لوقوع سوء تفاهم قد يصل إلى حد إطلاق النار كما حدث في غرب العاصمة تونس أول أمس عندما رفض أحد الشباب التوقف عند خمس دوريات كاملة فأطلق عليه الرصاص للاشتباه فيه، مما أدَّى إلى إصابته بجروح.