لقد استمر اهتمام الأدباء والمؤرخين بأدب الرحلات عبر مختلف العصور والحقب التاريخية بسبب طابعها الأدبي الشائق، والرحلات ذخائر نفيسة فهي من أهم فنون الأدب العربي، وكان لأسلافنا رحلات برية وبحرية تنوعت بتنوع أسبابها وحوافزها السياسية والدينية والاقتصادية، واهتم الرحالة المسلمون بوصف البلاد التي دخلت مع فتوحهم فتحدثوا عنها في كتاباتهم التاريخية ودعاهم ما في القرآن الكريم من إشارات إلى الأمم السابقة أن يطلعوا على ما عند أهل الكتب السماوية قبلهم من أخبارها، وأصبحت كتبهم التاريخية والجغرافية كتباً أدبية تعتمد على المشاهدة، وهي من هذه الناحية كما يقول الدكتور شوقي ضيف أقرب إلى أن تكون كتب رحلات يغلب عليها الطابع القصصي، وتجد لذة في قراءتها. ونقف اليوم مع أديبة عرفت بنشاطها في العلوم الدينية واللغوية والتاريخية يحفزها الحرص على لغة القرآن الكريم والاهتمام بالدراسات الإسلامية والسيرة النبوية هي الدكتور عائشة عبدالرحمن المولودة سنة 1921م وتوفيت عام 1419هـ بدمياط والمعروفة باسم بنت الشاطئ أديبة مصرية لها مصنفات عدة، ولقد اشتملت رحلتها إلى الحج على وصف دقيق وتصوير بديع وأسلوب أدبي رفيع خلال رحلة الحج التي قامت بها ومشاهدة قوافل الحجيج وتنقلهم حيث ذكرت عدداً من الأمور التاريخية بجانب ما تحدثنا عنه، وأضافت فيه من مشاعر إسلامية متدفقة، إنها رحلة الحج وما فيها من عبر وعظات ودروس ومشاهد وآثار.
تبدأ الحديث قائلة:
على غير موعد كان هذا اللقاء مع التاريخ.
كنت في المغرب الأقصى مشغولة بدراستي القرآنية في جامعة القرويين، أرى فيها الجهاد والعبادة.
وقومنا هناك مشغولون بوداع خمسة عشر ألفاً من الحجاج المغاربة، في حفلات شملت ربوع البلاد في الريف والصحراء والعواصم، وفي الثغور على حافة البحر وساحل المحيط.. وسيطرت هذه الحفلات على الأفق كله، بمراسمها وتواشيحها فأرهفت شوق القاعدين، وأنا منهم.
وأرقني الحنين إلى الحرمين، من حيث بدا ألا مكان لي على الطائرات المحجوزة إلى آخر يوم يدرك موسم الحج.
وقد دنا الموعد، والأمل يبدو بعيداً..
ثم أذن الله فهيأ لي الأسباب من حيث لا أتوقع. وفي ثلاثة أيام، لا أكثر، كانت إجراءات سفري، وصحبتني رعاية الله في رحلتي من الدار البيضاء إلى الحجاز مع آخر فوج من الحجاج المغاربة.
ومعي ما تيسر من الدراهم، وزاد قليل من قديد الخبز وجاف الإدام قدرت أنه يكفيني مع التقشف في رحلة حج ونسك.
وصلنا إلى مطار جدة قبيل مشرق الشمس من صبح الخامس من ذي الحجة، لأجد نفسي في ضيافة سمو الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، من حيث لم أحتسب أنه ما زال يذكرني وقد طال الأمد على آخر لقاء لنا في مجلس سمر على ضفة النيل بالقاهرة.
وفيما كنا في المساء بقصر جدة، نسترجع الذكريات ونتناشد أشجاننا ونتشاكى هموم أمتنا وعبر أيامنا وليالينا، استأذن علينا زائر من المراسم الملكية، تحدث إلى سمو الأمير الذي أبلغني متلطفاً أنني انتقلت من ضيافته إلى ضيافة جلالة الوالد الملك فيصل.
ولعل أول ما خطر لي وأنا أتلقى هذه الرعاية الكريمة، هو هم التصرف في (توزيع) ما حملت معي عبر قارات ثلاث من زاد الخبز القديد والإدام الجاف!!
وشهدت الموسم مع مليون وخسمين ألف حاج، وسعتهم الأرض المباركة حيث يقضون معاً مناسك حجهم، ويتحركون في وقت واحد من الطواف إلى المسعى، ومن منى إلى عرفات، ويفيضون منها قبل الفجر إلى المزدلفة وتجمعهم (منى) على الرحب والسعة في ليلة عرفة، ويوم النحر وأيام بعده..
وإن أكبر عواصم العالم لتضيق ببضعة ألوف من السائحين إن طرأوا عليها في وقت واحد، ويعييها أن تدبر لهم المنزل والطعام ووسائل الانتقال...
في كل خطوة وكل موقف ومشهد، وجدتني من التاريخ في البيت العتيق وأم القرى.. وتفيض في الحديث عن النهضة والتطور قائلة:
مدنية العصر قد غزت الوادي الأجرد غير ذي الزرع. وأسراب الطائرات والسيارات قد حلت بديلاً عن النوق والجمال. والكهرباء قد حلت بديلاً عن الحطب. والرخام يرصف ساحة البيت العتيق وطريق المسعى، مكان الحصى والرمال. والمباني العصرية تقوم في موضع الخيام والدور البدوية البسيطة الساذجة. ولا شيء من هذا كله يمس روح المكان. تغير الشكل والمظهر، وبقي للمكان جوهر شخصيته التاريخية، يتألق بنور قداسته ويتوهج بسنا أصالته وعرافته. ثم تأخذ في الحديث عن الكعبة وعن هذه البقاع المباركة حيث تقول:
والكعبة تستبدل كل عام كسوة جديدة بأخرى قبلها. وتبقى حقيقتها بمنأى عن طوارئ التغيير والتبديل: مثابة الحج ومهوى الأفئدة، وبيت الله المطهر للطائفين والعاكفين والركع السجود. وكذلك تتغير أشخاص الحجاج عاماً بعد عام، وتختلف شخصياتهم من جيل إلى جيل والسمت واحد، على تفاوت الأجيال. والشعائر والمناسك واحدة، على تعاقب السنين وتباعد العصور.
ويتصل الحاضر بالماضي عبر حقب وأدهار، في هذه البقاع المباركة التي تحتفظ بجوهر شخصيتها منذ عرفها التاريخ مثابة للحج وأمنا، فلسنا نراها اليوم إلا كما رآها آباء لنا وأجداد، على تنائي الزمان.
سعوا كما سعينا، وطافوا مثلما طفنا، ووقفوا بالمشعر الحرام وعلى عرفات حيث وقفنا، ونحروا في منى كما نحرنا، ورجموا الشيطان وجنده كما رجمنا.
والأماكن، غيرها، تتغير وتتبدل، فيطمس جديدها معالم القديم، ويدك عمرانها المحدث أطلال العتيق، فلوا أن أحداً من أهلها غاب عنها بضع عشرات سنين ثم عاد إليها، لأنكرها وأنكرته، وأعوزه فيها ترجمانا ودليلا.
كم عرفت الدنيا غير هذا البيت العتيق من بيت ومزار، وكم شيدت قبله وبعده قصورا باذخة ومعابد شامخة وصروحا ممردة شاهقة، وهذا البيت العتيق حيث هو منذ كان: كعبة الحجاج وملاذ العابدين، تتضاءل دونه أبهى الدور وأفخم القصور وأعلى الصروح!
وراء المعروف من تاريخه الديني، دهور وأحقاب موغلة في أعماق ما قبل التاريخ، شهد الزمان فيها موضع هذا البيت ملاذاً للضاربين في الفلاة، يلتمسون لديه الأمن والراحة، ويؤدون في حماه شعائر عبادتهم التي ارتدت في ظروف مجهولة إلى وثنية ضالة، هجرت البيت العتيق فلم يبق منه سوى أطلال جذبت إليها إبراهيم الخليل فجاءها من أرض كنعان، وترك عنده ولده إسماعيل وأمه هاجر.
في واد موحش غير ذي زرع ترك إبراهيم ولده ودعا ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى من ترك من ذريته عند بيت الله المحرم، وأن يرزقهم من الثمرات ثم انصرف عائداً إلى أرض كنعان، فكان مسعى الأم هاجر بين الصفا والمروة، مهرولة شوطاً من بعد شوط، عسى أن تلمح سبيلاً للنجاة من الهلاك.
كان هذا المسعى قرباناً مباركاً، أخذ موضعه في العقيدة الدينية شعيرة من شعائر الحج، فذلك هو مسعانا مهرولين بين الصفا والمروة، مثلما سعت (هاجر) التي دخلت التاريخ الديني بهموم أمومتها، وعاد إبراهيم إلى ولده، وقد بلغ مبلغ السعي، فأفضى إليه برؤيا منام: أن يذبحه قرباناً لرب هذا البيت العتيق، وامتثل الفتى لأبيه في أمر ربه، صابراً لم يتردد. وتجلت رحمة الله بعد ذلك البلاء المبين، فكانت آية الفداء.
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
وخلد المشهد شعيرة من شعائر الحج. فكلما هل عيد الأضحى نحرنا الضحية في منى، أو حيثما كنا: ذكرى وعبرة، وإحياء لمشهد البذل والفداء طاعة وبراً وتقوى.
والعبرة في الشعائر بالتقوى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}.
وتأصلت حرمة أم القرى لموضع هذا البيت منها، فما عرف التاريخ سواها عاصمة دينية للعرب.
وقد غبرت عليها عصور بعد إبراهيم عليه السلام، ارتد فيها العرب إلى الوثنية، دون أن تفقد مكة حرمتها فيهم أو ينقطع حج إلى بيتها العتيق.
وبقي البيت العتيق في أم القرى، مثابة للناس وأمناً، وكعبة الحجاج من كل قبائل العرب.
ثم تحدثت بإسهاب عن قصة الفداء وحادث تجديد الكعبة وعام الفيل.
ولقد أسهبت في حديث طويل عن رسالة الإسلام والبيت العتيق وقضايا تاريخية كثيرة ثم تقول: وتمضي الأعوام والقرون، وتتعاقب الأجيال والعصور، والتاريخ مشدود إلى مشهد الحجيج، يسعون إلى البيت العتيق محرمين متطهرين، خاشعين قانتين، قد تجردوا من كل زينة وجاه وزهر، وطرحوا عنهم ما يتفاخر به الناس من أزياء وألقاب ورتب ومناصب، وتخففوا من أثقال المادية التي تئد روح الإنسان، وتخنق فيه هيامه الفطري بالحق والخير والجمال.
وجاءوا بيت الله في زي الإحرام، شبه عراة شبه حفاة، وتماحت بينهم فروق الألوان والأجناس والعناصر والطبقات والدرجات،
واستوى الملوك والرعايا،
واستوى الأمراء والدهماء،
واستوى الرؤساء والاتباع،
فليسوا جميعاً سوى عباد الله، وما يتفاضلون إلا بالتقوى! وتتجلى فيهم وبهم الآية المحكمة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
يمحق بها الدين في ختام رسالاته، كل ما يئود إنسان العصر من مآسي التفرقة العنصرية وجرائم الاضطهاد المذهبي، ولعنة الإكراه في الدين، وبصوت واحد، في حرم البيت العتيق، يعلو هتاف ألف ألف وخمسين ألف مسلم، شهدوا هذا الموسم يرددون:
لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك.
وهكذا تصور رحلتها إلى الحج في كتابها أرض المعجزات في تصوير أدبي شائق يجعله نوعاً أدبياً متطوراً يجاري الرواية الحديثة وأدب السيرة الذاتية مما يدل أبلغ دلالة على قدرتها وثقافتها الإسلامية الواسعة وتصويرها البديع الأحوال الحاج والطرق والمواصلات وخصائص تلك الأيام المباركة وما فيها من عبر وعظات، وبهذه الصورة الأدبية والتاريخية كانت مشاهد هذه الرحلة ووصف المشاعر والقضايا التاريخية وتوظيفها بما يمكن الإفادة منه من معلومات.
وهكذا يتميز أدب الرحلات بتقديم وصف دقيق لما شاهده الرحالة وتم التعرف عليه، وقد كان الحج هو الدافع القوي لذلك. هذا وبالله التوفيق.