كُنا أول البعثات التعليمية التي أوفدتها الدولة أعزها الله إلى القارة العجوز وذلك في أوائل التسعينات من القرن الهجري الماضي وتحديداً في العام الهجري 1384هـ وحططنا الرحال في مطار جنيف الدولي وكنا مبهورين بهذا العالم الجديد علينا.. عالم منظم وكل شيء فيه مرتب ونظيف.. يلفه الهدوء والجو العليل. طرقاته في غاية التنظيم والنظافة تتجول فيه كل أنواع المركبات ووسائل المواصلات بهدوء ونظام وسكينه فلا إزعاج من أبواق السيارات والحافلات ولا سرعة قاتلة ولا تجاوزات غير نظامية كل شيء في المجتمع السويسري يدعوك إلى الإعجاب به وتأخذك الدهشة كيف يعيش هؤلاء القوم ويتعايشون مع النظام بكل أدب واحترام وفي بلادك المسلمة كل شيء لا يدعو إلى الإعجاب صخب في كل مكان.. فوضى في السير.. قلة نظافة.. عدم احترام آدمية الإنسان نسير بعكس ما يأمرنا به الدين من المحافظة على النظافة واحترام القانون ويأخذك العجب كيف وصل هؤلاء إلى ما هم فيه من رفعة في الحياة الدنيا وما نحن فيه من تخبط وقلة احترام للغير إلا من رحم ربي.
كان علينا الذهاب إلى مدينة تسمى نيوشاتل لدراسة اللغة الفرنسية في جامعتها وهي تبعد عن جنيف قرابة الساعة بالقطار وتكاد تكون كل المدن السويسرية بها بحيرات مائية عذبة وجبال خضراء متوِّجه ببياض من الرداء الثلجي الناصع وترى الورد والزهور المختلفة الألوان ناهيك عن الأشجار. ولأول مرة أرى ساعات في ميادين المدن من الأزهار فكان فكل هذا الجمال والنظافة والنظام والسكينة أثر محمود في نفسي. وصلنا مدينة نيوشاتل وكانت مدينة جميلة تنام بين أحضان طبيعة خلابة.
وفي مساء اليوم التالي لوصولنا لمدينة نيوشاتل الجميلة والحالمة القافية على بحيرة كبيرة وجميلة تأخذ بالألباب. كان ذلك اليوم يصادف اليوم الثالث من أكتوبر عام 1965م وبين هذا اليوم وهذه المدينة حب ووئام ومودة لا تنفصم عراها تتكرر على مدى الأعوام والشهور والدهور إلى ما شاء الله. أخذ مني التعجب والعجب كل مأخذ وأنا أجبل ناظري من نافذة الفندق فقد رأيت خلية نحل من البشر بصحبتهم الأوناش يركبون في ما عرفت لاحقاً أنه مدينة ألعاب مصغرة تتنوع فيها الألعاب المسلية المختلفة؛ فعلى مدار ثلاثة أيام بلياليهن بدأ من الثالث من شهر أكتوبر من كل عام تحتفل هذه المدينة الصغيرة والوادعة بعيد قطف العنب حسب ما أخبرنا أهلها ويسودها الصخب والضجيج والفوضى لا سيما عندما يحل المساء فالكل الصغير والكبير يريد أن يتسلى ويمرح وينسى تعبه وهمومه ويتوافد إليها في هذه الأيام آلاف الزوار من المدن السويسرية المختلفة ومن البلدان المجاورة إيطالياً، ألمانيا، وفرنسا.. الكل ينشد المتعة والمرح. كانت أول مرة أركب فيها سيارات التصادم الصغيرة التي تعمل بالكهرباء وأشعر أنني أصغر من عمري بسنوات ولا سبيل للتفاهم إلا باللغة العالمية - لغة الإشارة.
وفي صباح اليوم التالي رأيت باعة كثيرين في الشوارع الضيقة والجميلة المجاورة للفندق الذي أنزل فيه ورأيت أنواعاً نظيفة وكثيرة من الفاكهة وعرفت أنهم ليسو مثلنا يشترونها بالصندوق ولا حتى بالكيلو وإنما بالحبة فعجبت أشد العجب لهذا الاقتصاد في النفقة وتقدير النعمة فاشتريت تفاحة ناصعة الحمار والنظافة وتذكرت هذا الأمر بعد سنوات طويلة من عودتي إلى أرض الوطن عندما أُتيحت الفرصة لرجل مسن أن يذهب للعلاج في لندن واستغرب مثلي كيف أن الأسرة المجاورة لمسكنه تدخل كل يوم بكيس صغير فيه نوع واحد من الفاكهة وليس مثل ما لدينا من أنواع عديدة وتضع مخلفاتها آخر النهار بكيس مماثل عند باب الشقة. مرت تلك الأيام بفرح وحبور قصيرة وسريعة. بعد ذلك كان علينا أن نبحث عن سكن فنحن لم نأت للسياحة وإنما أتينا للدراسة وبدأ الجد.
حصلنا على سكن وفي صبيحة اليوم التالي وبعد أن انقضت احتفالات هذه المدينة الصغيرة وغادرها الكثيرون وعادت كسابق عهدها مدينة حالمة جميلة ونظيفة تتسم بالدعة والسكون والخضرة والجمال.
ذهبنا في صبيحة ذلك اليوم لجامعة نيوشاتل للبدء في دراسة اللغة الفرنسية وبدءوا معنا بداية جادة ولأول مرة في حياتي أرى معملاً يسمى معمل اللغة كل طالب يجلس في كابينة ويضع السماعات فوق رأسه وعلى أذنيه أو ما يسميه شباب اليوم - هدفون - أعجبتني الجامعة والمعمل لما تتميز به من نظافة وهدوء وبدأنا نلتقط الكلمات والجمل والتعابير القصيرة. بعد فترة وجيزة انتقلت للسكن فيما يعرف بالعائلة أو ما يعرف لديهم بالبنسيون. استأجرت غرفة لدى امرأة عجوز مع الأكل وكان يسكن لديها طالب إيطالي؛ وآخر ألماني.
وفي الصباح وبعد أن أتناول طعام الإفطار أغدو ماشياً إلى الجامعة وبعد انتهاء الدراسة يكون وقت الغداء قد حان فأتغدى مع الإيطالي ومعها. بعد الغداء لديَّ متسع من الوقت لأخذ قسطاً من الراحة والمراجعة والذهاب للسينما لو رغبت أو التمشي أو الذهاب لأحد المقاهي، وفي المساء يحلو العشاء مع عائلتي الجديدة ثم آخذ قسطاً من الراحة والمراجعة فالخلود إلى النوم ويتكرر هذا الروتين خلال خمسة أيام في الأسبوع عدا يومي السبت والأحد فهذان اليومان يومي عطلة للجميع ولك أن تفعل فيهما ما تريد وبالنسبة لنا نحن الطلاب السعوديون نلتقي في بعض الأوقات في سكن أحدنا أو لدى البعض من القاطنين في سكن طلاب الجامعة أو في أحد المقاهي أو المطاعم أو نذهب للسينما فهي شيء جديد ونستفيد منها في تعلم اللغة. ذات يوم سألتني عجوزي إن كان الأمل لديها طيباً فلم أحر جواباً حيث أن لغتي لا زالت تحبو ولكن الإيطالي المكار قال لي لماذا تقول لها الأكل طيب كل يوم وهذا ليس بصحيح. أنا أعرف هذا ولكن حاجز اللغة يحول بيني وبين أن أتكلم كثيراً وبطلاقة وبعد شهر كررت عجوزنا السؤال وكنت قد بدأت (أتبقم) بالحديث بالفرنسية وكانت في ذلك اليوم قد أعدت لنا طبقاً من المكرونة تعلوه جبنة مبشورة ذات رائحة غير محببة إلى نفسي فقلت لها يمكن السبكتي قديمة ولم أقل أنها ليست طباخة ماهرة. قامت من على المائدة كأنها قد لُدغت وأسرعت إلى مطبخها وسمعت تكسير الصحون والإيطالي يكاد يسقط من الضحك على قفاه وقدمت تجاهنا وقالت إنهم في سويسرا يتلقون كل شيء يمضي على إنتاجه سنة وأنها كانت تظنني ملاكاً وإذا بها تراني شيطاناً عياذاً من ذل. ندمت أشد الندم فيما هي خرجت مسرعة (وصفعت) بباب الدور الأول ولم نرها إلا بعد ثلاثة أيام وهي منتفخة الأوداج. سألت صاحب كشك ورد على ناصية الشارع كيف أعيد صورة الملاك؟ ماذا تتوقعون الجواب.. قال اشتر لها بوكيه ورد وقدمه لها مع الاعتذار ففعلت. فقامت وأتت بفازه ووضعت فيها ماء ووضعت الورد ثم ذهبت وأنا جالس أتناول غدائي ووضعت حمره وأتت وبيدها منديل أحمر ثم قالت هل تسمح لي أن أقبلك. أحسست أن الغرفة تدور بي ولم أع ولا أدري ماذا أقول. قبلت خدي وأنا آكل لقمتي ثم مسحت الحمرة بالمنديل وقالت شكراً أنت إنسان لطيف. عرفت حينها أن صورتي كملاك قد عادت إلى مخيلتها.
في يوم من الأيام قالت لي إنها اشترت تذكرتين لحضور عرض أزياء وتريد مني مرافقتها لأرى شيئاً جديداً. ذهبت معها تحت إلحاحها ومجاملة لها. حضرت الحفل وكان في مكان صغير كل من فيه من العجائز وشعرت بخجل شديد حين وجدت نفسي غريباً بين الحضور وأنه لا معنى لحضوري وشعرت بارتياح شديد عندما انتهى العرض وعدنا من حيث أتينا. بعد فترة وجيزة قالت لي أنها وجدت لي غرفة جميلة في عمارة جديدة تقع على كورنيش البحيرة في شقة صغيرة لدى إمرأة عجوز لرغبتها في الإستفادة من غرفتي فوافقت وإن كنت سوف أفتقد البنسيون لديها.. أي المأكل وفعلاً كانت الغرفة والعمارة والموقع في غاية الجمال لوقوعها على ضفاف بحيرة نيوشاتل استأجرتها من العجوز التي عرفت أنها تعمل خادمة في تنظيف البيوت فلا أراها ولا تراني إلا لماماً وكانت تغسل ثيابي وأغرب من ذلك تخِط الجوارب إذا حدث بها شقوق وتترك لي بين حين وآخر على مكتب الدراسة كرزاً بارداً لذيذاً. عرفت في ما بعد أنها يهودية وأن ابنتها تسكن أعلى العمارة مع زوجها اليهودي الذي قال لي ذات يوم عند مدخل العمارة سوف أُعلمك العبرية فلم أحر جواباً. في يوم من الأيام أحسست بألم شديد في ظهري وشكوت لها الحال فأتت بدهان لم أنظر إليه ودهنت به ظهري ونمت تلك الليلة وفي الصباح شعرت بتحسن ولكنها قالت لي لقد حجزت لك موعداً لدى طبيب قريب تذهب ليفحصك فطلبت منها أن تتصل بالجامعة لإشعارهم أنني مريض وذهبت إلى الطبيب وكان مكتبه مهيئاً وكذلك شخصيته ولديه فريق طبي وأجهزة أعتقد أنه مختبر.
عندما خرجنا من عنده سألت زميلي عن النتائج فقال إنها مطمئنة. بعد قرابة ثلاثة أشهر قررت السكن في السكن الجامعي مع من سبقوني للسكن فيه من الزملاء وكان المكان جميلاً هادئاً ونظيفاً ويحتوي على مطعم للطلاب وبه مكان لممارسة لعبة تنس الطاولة. أكملنا السنة المخصصة لدراسة اللغة الفرنسية حيث انطلقت ألسنتنا في التخاطب مع الناس وفهم ما يدور في الأفلام السينمائية وفجأة جاءت التعليمات من الملحقية الثقافية بأن نغادر إلى فرنسا حيث سوف ندرس فترة الصيف في معاهد اللغة للتقوية والتحضير لدخول الجامعات كل حسب تخصصه.
أنهينا برنامج اللغة وتوزعنا على الجامعات الفرنسية ولكن عندما بدأنا الدراسة الجامعية وجدنا أن ما تعلمناه يصلح للتخاطب مع الناس وممارسة الحياة اليومية أما لغة التخصص ولا سيما التخصصات الأدبية مثل القانون فشيء مختلف تماماً إضافة على ضخامة المدرجات الطلابية والتي تمتلأ بمئات الطلاب الفرنسيين وأبناء المستعمرات الفرنسية ممن رضعوا اللغة الفرنسية ولا سبيل لفهم ما يلقيه الأستاذ ومجاراته بتدوين ما يقول أو بعضهم وإذا حل المساء وأردت الدراسة في كتب القانون والتي هي أشبه بالقواميس حجماً ولغة أشبه بالطلاسم وأنك حتى لو استعنت بالقاموس فسوف يضيع عليك الوقت وأنت لم تتجز شيئاً. قررنا أن نكتب خطابات للملحق لتدارك الوضع بحيث يتم تحويل بعثتنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا أو أي دولة عربية فرفض هذا الأمر جملة وتفصيلاً. بعد مضي سنة دراسة ضاعت هباءً منثوراً خاصة للمبتعثين للدراسة النظرية تم تحويل من أراد للدراسة في ليبيا! يا للهول! بعد أشهر تم نقلهم إلى تونس واعتقدنا أن تونس أهون الشرور فانضممنا لمن سبقونا ولكن كانت عاقبة أمرنا خسرى وكأنك يا بوزيد ما غزيت فقفلنا عائدين إلى بلادنا نجر أذيال الفشل والتي لا ناقة لنا فيها ولا جمل. بعد أشهر انفرجت لنا بوابة الأمل وقيل لنا لتذهبوا للدراسة في بلاد العم سام فكانت فرحة وتلك قصة تروى.