بادئ ذي بدء لابد أن نتذكر الحقيقة المتداولة في عالم السياسة؛ وهي: أن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح والمنافع، وأن هذه العلاقة قابلة للتحول عند تعارض المنفعة مع بقاء العلاقة، أو وجود مصلحة أخرى طارئة مع طرف آخر!
هذه هي السياسة براجاماتية نفعية انتهازية نفعية لا أخلاقية؛ هي أخلاق الذئاب والأسود ووحوش الغاب، الفريسة هي الهدف والغاية، والوصول إليها يستدعي المناورة والمداورة من بعيد والاقتراب من الفريسة بالتخفي والتلون والتشكل والمسكنة وادعاء البعد وعدم وضوح القصد المخفي؛ حتى إذا واتت الفرصة واطمأنت الفريسة أنها غير مستهدفة انقض الوحش عليها ومزقها إربا ثم احتفل بالإطباق على فريسته بإطلاق صيحات مدوية في الهواء!
لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة؛ هكذا نرى الآن في الساحة الدولية؛ فقديما كان شاه إيران صديقا حميما لأمريكا؛ ثم انتهت فوائده وتصرمت مكاسبه فربت المخابرات الأمريكية والغربية عدوه «الخميني» ومن لف لفه من رجال الدين الشيعة؛ بدل العلمانيين الليبراليين صديقهم الشاه الليبرالي العلماني بالخميني الأصولي المتطرف؛ وتنازلوا عن دعاوى العلمنة والحداثة في سبيل المصالح السياسية والاقتصادية ومشروع الهيمنة المخطط له على منطقة الشرق الأوسط!
وهكذا تمت «الثورة الإسلامية» 1979م بنجاح في إيران مع ما صاحبها من تعارض في الرؤى بين جوقة الثوار المندفعين من الشبان الذين كانوا يطالبون بمحاكمة «الشاه» محتجين على إقامته في مصر بعد أن رفضت أمريكا استقباله.
والآن وبعد ثلاثين سنة من المد والجزر الخفي والمعلن والعلاقة العميقة مع رموز نظام الملالي في السر؛ هاهي الأمور تتكشف عن الحقيقة المخفية التي تفرض الظروف السياسية المحتدمة الآن وتلاقي المصالح في المنطقة بين القطبين الأمريكي والإيراني كشفها في العلن والتبرؤ من التكتم عليها خلال العقود الماضية والسعي إلى إقناع التيار المتطرف من الأجنحة السياسية والشعبية والدينية في النسيج الإيراني بضرورة استيعاب منطق المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة والغرب وإيران!
رويدا رويدا ينكشف الغطاء عما يحاك للمنطقة في الخفاء؛ فلا سقوط الشاه، ولا حماية «الخميني» واستضافته في باريس وحمله على أكف الراحة إلى عرش إيران بعد أسبوعين من رحيل الشاه، ولا الحرب بين العراق وإيران، أو غزو العراق للكويت، أو حصار العراق ثم غزوه أمريكيا واحتلاله ثم تسليمه كاملا بعدته وعتاده وجيشه وبتروله وتاريخه وأمجاده وطوائفه هدية إلى عدوه الأزلي القديم «إيران» لم يتم كل ذلك عبثا!
ها هي الصورة تتضح حدثا بعد حدث؛ فقد كشف «تثوير» المنطقة العربية، وإشعال شوارعها، وتبني التيارات السياسية الناقمة، واستقطاب ذوي الطموحات السلطوية من «انتهازيي الإسلام السياسي» كجماعة الإخوان المسلمين وغيرهم أن المشروع المخفي بدأت ملامحه تبدو واضحة لمن ألقى السمع وهو شهيد بعد أن كانت صورته في العقود الثلاثة الماضية يعلوها كثير من الغبش، ويحجب رؤيتها طبقة من الغبار والأتربة المتعمدة؛ لئلا يتسبب وضوحها مبكرا في تعثر تنفيذ الخطة اللئيمة المرسومة والمدروسة بعناية من الصهيونية واليمين المسيحي المتطرف في دهاليز البيت الأبيض ومراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار في العواصم الغربية الكبرى!
ويأتي التقارب الأمريكي الإيراني الآن خطوة متقدمة في العلن؛ بعد أن كانت تتم في الخفاء؛ ليواصل مشروع «الشرق الأوسط الجديد» تقدمه أيضا في طريقه إلى التنفيذ خطوات واسعة، وليتجاوز أوباما وروحاني ضجيج التيار المتطرف في الشارع الإيراني، ويعلوا بنفسيهما عن تلك الشتائم القديمة التي وظفها كل طرف ضد الآخر؛ تعمية وتعتيما على طبيعة العلاقة النفعية الحميمة في السر بين الطرفين؛ فلا أمريكا الآن «الشيطان الأكبر» ولا إيران الآن محور الشر في العالم!
وبتأمل «براجماتية» واشنطن المكشوفة نفهم لماذا تخلت عن أصدقائها القدامى الحميمين وتركتهم في العراء يواجهون مصائرهم أمام شعوبهم وأمام التاريخ؛ من شاه طهران مرورا بماركوس مانيلا إلى حسني مبارك القاهرة!