لم يكن لي إلا استعادة شيء من ذكريات سيدي الوالد حفظه الله «والذكريات صدى السنين الحاكي» عن الراحل الكبير فقيد المجتمع الشيخ «عبدالعزيز بن محمد بن عبدالله أبو ملحة» رحمه الله، فقد بُلغت برسالة مقتضبة من العم سفر بن عبدالله برقان الذي تربطه بالراحل علاقة مصاهرة ونسب، بوفاته صباح الثلاثاء الرابع من شهر ذي القعدة من العام 1434هـ بمدينة الرياض، والفقيد أحد أفراد أسرة آل أبو ملحة الذي يصدق فيهم قول الشاعر:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا.. أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فهي أسرة كريمة، لرجالاتها مواقف مفعمة بالحب والولاء للوطن وقادته، منذ بداية توحيد الكيان، والتاريخ قد سطر بمداد من ذهب، لجدهم الشيخ عبدالوهاب بن محمد أبو ملحة، أحد رجالات الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، مواقفه الشهمة، وإسهاماته الكبيرة، وتضحياته الجسيمة رحمه الله مع المؤسس حتى تمت الوحدة، وقد وُفق أبناؤه في إخراج شيء من تلك السيرة الذهبية، في مؤلف يحمل اسمه، أما الراحل الشيخ عبدالعزيز فهو في مقام الوالد، ومعرفتي به من وقت مبكر من طفولتي، بحكم أنه كان يحضر إلى منزل الوالد لما يربطهما من زمالة، وجوار وصداقة طويلة وعميقة، فهما رفيقا درب، وزميلا عمل في البدايات، وقد تزاملا في المدرسة السعودية بخميس مشيط التي فتحت فصولها الدراسية في عام 1359هـ كطالبين، ثم حينما تم تعيينهما مدرسين في مطلع السبعينيات الهجرية بالمدرسة، إلى حين شطّت بهما دروب الحياة والعمل، فالرجلان ينتميان لجيل تتصارع بداخل أبنائه الطموح للمعالي، وكأن بيت المتنبي شعار لهم يوم قال: إذا غامرت في شرف مروم.. فلا تقنع بما دون النجوم، وأنا حين اخترتُ الكتابة عن الفقيد رحمه الله، فليس من أجل سرد حياة الراحل، وقد كتب عنه الكثير، وجيله وزملاؤه أحق مني وأقدر على الكتابة عنه، لكني بما عرفته عن الفقيد، وما سمعته عنه، أردت التوقف عند محطات هي خصال للفقيد، الذي كان يعد مدرسة، بودي لهذا الجيل أن يتعلم فيها شيئا من سماته وما اتصف به، فقد عُرف عنه جرأته في الصدع بالحق، وله في ذلك الكثير من المواقف يعرفها جيله، جعلت الكثير من الناس يحترمونه لصدقه وإخلاصه ووطنيته الصادقة،كما عُرف عنه محبته للناس الذين بادلوه الحب، فقد كان يجمع أبناء منطقة عسير على مائدة في منزله العامر، في مطلع شهر رمضان من كل عام، وقد تحول هذا الاجتماع إلى عادة سنوية منذ انتقاله للرياض، وتعيينه وكيلا لوزارة الشؤون البلدية والقروية، ولأنه كما قيل:
وإذا أحب الله يوما عبده.. ألقى عليه محبة في الناس
فقد كسب أبو محمد محبة الناس، وكان منزله مفتوحا لكل أضيافه، مثلما كان قلبه يسع الجميع بحب وود مفتوحاً للجميع، إضافة لما قلت فقد اتصف الفقيد بالكرم، وكلما سمعت عن كرمه، وحاتميته في البذل والعطاء السخي، عبر أمام ناظري قول أبي تمام:
تعود بسط الكف حتى لو أنه.. ثناها لقبض لم تطعه أنامله كما أن الراحل تميز بميزة قطع من أجلها المسافات، واقترب في سبيلها من كل الأطراف، بغية أن يصل لهدف نبيل كان هدفه قول الله تعالى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (128) سورة النساء، إيماناً منه بأن الصلح أبقى أثراً، وأسلم عاقبة في علاقات الناس ببعضهم بعضا، فكان لا يبخل بجهد من أجل أن يحققه الصلح بين الناس في قضايا اجتماعية، بعضها استعصت على الوقت، ومحاولات المصلحين، لكنه بما عرف بحنكته وحكمته، كان ينجح في تحقيق الوفاق والصلح في قضايا كثيرة، هذه المحطات التي ذكرت لكم بعضها على عجل، هي من الصفات التي لا يحفل بها إلا الكبار من أصحاب النفوس العزيزة الصادقة، فرحم الله أبا محمد وصدق الله إذ قال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.