الرياض - «الجزيرة»:
يستفتي كثير ممن يعتزم أداء فريضة الحج في مسائل متعددة حول كيفية أداء هذه العبادة العظيمة، وأحكامها، وواجباتها، ومسنوناتها، ومحظوراتها، الأمر الذي يؤدي في غالبه إلى ظهور أقوال شاذة، حول بعض الأحكام المتعلقة ببعض المناسك يزعم قائلها والمفتي بها، أنها من باب التيسير والتسهيل على الحجاج مثل: (رمي الجمرات قبل وبعد الزوال، الوقوف بعرفات، والمبيت بمزدلفة، والتوكيل في الرمي مع الاستطاعة، والحج بدون محرم) وهذا لا شك قد يؤدي إلى أداء فريضة الحج خلاف الوجه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حول هذه التساؤلات طرحنا ذلك على اثنين من أصحاب الفضيلة المتخصصين في الدراسات الشرعية فماذا قالوا:
عدم تتبع الرخص
بداية يؤكد د. إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بالرياض أن المسلم مأمور بأن يؤدي ما أمره الله به على الوجه الأكمل، والحج فريضة وعبادة من أجل العبادات وأعظمها أجرا، فنصيحتي لكل حاج أن يتفقه في دينه ليعبد الله على بصيرة، هذا إن استطاع أن يعتمد على نفسه، أما إن كان يجهل شيئا من أحكام الحج فعليه أن يلزم الرفقة الطيبة الصالحة التي تعينه على معرفة ما جهله، وتدله على الخير، وتكون عوناً له على تحري الصواب، فإن لم يجد فعليه بسؤال أهل العلم ممن يوثق بعلمهم امتثالاً لقوله - تعالى -: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (43) سورة النحل.
ولا ينبغي للمسلم أن يتتبع الرخص مع قدرته على الأفضل والأكمل، فالحاج الذي جاء لأداء فريضته عليه أن يكون أكثر حرصاً على تطبيق أحكام الحج وفقاً لما عليه العمل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وما اتفق عليه الأئمة العلماء بعيداً عن الأقوال الضعيفة أو الشاذة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص في شيء من أعمال الحج إلا لأصحاب الأعذار، فإذا لم يكن الحاج منهم فلا رخصة له، وإني لأعجب ممن يدفع من المزدلفة بعد نصف الليل بلا عذر، ويفوت على نفسه إدراك السنة في البقاء إلى الفجر حتى يسفر، بل من العلماء من أوجب ذلك عليه، ولا يجوز له الدفع من المزدلفة بعد نصف الليل إلا إذا كان من أصحاب الأعذار أو من في حكمهم.
وكذلك الرمي قبل الزوال أيام التشريق أو الدفع من عرفة قبل الغروب أو المبيت خارج منى مع القدرة عليه أو التحلل بأخذ شعرات متفرقة من الرأس، كل ذلك مما يتساهل به كثير من الحجاج بسبب فتاوى شاذة، ويظنون أن ذلك من باب التيسير ورفع الحرج، وهذا غير صحيح فالتيسير مطلوب وسمة من سمات هذه الشريعة ولكن إذا وجد سببه، ومخالفة السنة لا يسمى تيسيرا.
وعلى العلماء والدعاة بيان الحق للناس، وعدم التساهل بأعمال الحج، وذلك بتكثيف الدروس والمحاضرات والنشرات الإرشادية في المشاعر، وكذلك الإنكار على من فعل شيئا من ذلك وأمره بإدراك الصواب إن أمكن، أو بيان ما عليه من الجزاء والفدية.
ومن الحجاج من يعمد إلى الرخص والفتاوى الشاذة رغبة في سرعة العودة إلى بلده، وهذه حجة واهية، فمن جاء لأداء نسكه فعليه بالوفاء والتمام وتحري الصواب والأفضل، ويسأل عما خفي عليه، ويتأكد من عدم وجود نقص في حجه حتى يعود إلى بلده وقد برأت ذمته.
الواجب الامتثال
ويقول الدكتور أحمد الرضيمان استاذ العقيدة في جامعة حائل: إن الواجب على المسلم إذا سمع أوامر الله ورسوله أن يقول سمعنا وأطعنا، ويمتثل بقدر مايستطيع، عملا بقوله - تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (7) سورة الحشر، وأما ما يفعله بعض الناس اليوم من عدم امتثال، إلا بعد سؤال المفتين، هل الأمر للوجوب أم للاستحباب، فهذا من سوء الأدب، ومن التكاسل عن الخير، لأن المشروع هو الامتثال، فإن كان واجبا، فقد برأت ذمتك، وإن كان مستحبا فهو حصلت خيرا كثيرا.
وإنما يسأل إذا خالف، فيقول: أنا لم أفعل، أو لم أشعر ففعلت كذا وكذا، ليعرف هل عليه إثم أو كفارة، أم أنه لاشيء عليه، فيقال له: افعل ولا حرج.
ولهذا لم يعهد أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتوقفون عن امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد السؤال عن مقتضى الأمر أهو للوجوب أم الاستحباب ؟ ولما أنزل الله - تعالى - قوله: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ استطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (97) سورة آل عمران، قام النبي - عليه الصلاة والسلام - بامتثال الأمر، وبين ذلك بيانا تاما، بأفعاله وأقواله، وقال للناس: (لتأخذوا عني مناسككم)، واقتفى أثره صحابته - رضي الله عنهم - جميعا، حتى إن عليا - رضي الله عنه - لحرصه على المتابعة قال: أهل بما أهل به رسول الله.
وهكذا سائر الصحابة - رضي الله عنهم - متبعون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله، ما استطاعوا سبيلا، فإذا لم يشعر أحدهم فقدم أو أخر، كما حصل ذلك في ترتيب أعمال يوم العيد، بادر بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، براءة للذمة، وخشية أن يكون ترك واجبا يأثم عليه.
وفي عصرنا الحاضر تقحم الفتوى من ليس أهلا لها، فصرفوا الناس عن السنة، فأفتوا بعدم المبيت بمنى، والرمي في أيام التشريق قبل الزوال مع أن ذلك متيسر جدا ولا سيما في هذا الزمن، وأفتى بعضهم بالانصراف قبل انتهاء الحج، والتوكيل عن الباقي، وغير ذلك من المخالفات، والعجيب أنهم يحتجون لمخالفاتهم بسوء فهمهم لحديث (افعل ولا حرج)، حتى بلغ من بعضهم كما سمعنا أنه سمى حملته، حملة افعل ولا حرج.
ومن المعلوم أن كلام رسول الله لا يتناقض، فالذي قال: «افعل ولا حرج» لمن قدم أو آخر في يوم العيد، وليس في سائر أيام الحج، هو الذي قال: (خذوا عني مناسككم)، لكن بعض المفتين مفتون بتتبع فواقر الرخص، وبواقر الشذوذ.
ومن المنصوص عليه في اعتقاد أهل السنة قولهم: (ونجتنب الشذوذ والفرقة)، فليحذر العبد أن يبني مجده وشهرته على العز الكاذب، بنشر الشذوذ والرخص الفاسد، مبررا للواقع، سعيا وراء حظ زائل، فإن هذا الضرب من المفتين، ما يلبث أن يلحقه الإدبار، فتحيط به خطيئته، فتنقله إلى السقوط المبكر.
وكان الحسن البصري - رحمه الله - إذا سمع جهالات هؤلاء، وتتبعهم غثاثة رخصهم يقول: (اللهم نشكو إليك هذا الغثاء). وكان ربيعة - رحمه الله - يقول: (لبعض من يفتي ها هنا أحق بالحبس من السراق)، وكان العلماء قديما يقولون: قل من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإن كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر إلى غيره: كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.