ونحن نحتفي في هذه الأيام بمناسبة وطنية كبيرة، وهي ذكرى توحيد المملكة العربية السعودية، فيجدر بنا أن نذكر مآثر من كان له الفضل -بعد الله- في لمّ شتات هذه البلاد وتوحيد كلمتها وإعلاء شأنها مؤسس هذا الكيان الشامخ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، يرحمه الله ويجزيه عنّا وعن جميع المسلمين خير الجزاء، وذلك من باب الشكر الذي حثنا رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه في قوله «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، كما أنّ في سيرة الملك عبدالعزيز وتعامله مع الأحداث دروس يُستفاد منها. وسأتناول في هذه المقالة القصيرة تعامل الملك عبدالعزيز مع مشكلة واجهتها المملكة تتمثل في ارتفاع الأسعار وشح المؤن نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي مرّت على المملكة في فترة من حكمه يرحمه الله، وكيف تعامل الملك عبدالعزيز بحكمته وحنكته مع تلك المشكلة.
إنّ الرؤية الاقتصادية السليمة ترتبط ببعدٍ اجتماعي وتؤكد على ضرورة استجابة حكومات الدول للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد للمحافظة على التوازن الاجتماعي والاقتصادي. وهذه النظرة العميقة تمثل بعداً أساساً في الرؤية الاقتصادية للملك عبدالعزيز، يرحمه الله.
فالأزمة الاقتصادية العالمية أو ما يُعرف بـ»الكساد الكبير، Great depression»، وما أعقبه من اندلاع الحرب العالمية الثانية أطاحت باقتصاديات دول العالم إلى أن وصل الاقتصاد العالمي إلى أدنى مستوى له وعانت من ذلك شعوب العالم، وفي المملكة كان الوضع صعباً جداً فمع تناقص أعداد المسلمين القادمين إلى الحج بسبب الحرب وما يعني ذلك من توقف مورد اقتصادي مهم كانت تعتمد عليه الدولة كثيراً بالإضافة إلى توقف الملاحة في البحر الأحمر، كذلك توقف عمليات ضخ البترول ونقله بعد اكتشافه بكميات تجارية وذلك لمخاطر الحرب، مما قلّ معه توفر المؤن والسلع في البلاد ولاح معه شبح المجاعة وأمام ذلك الوضع اجتمع الملك عبدالعزيز مع شيوخ القبائل وكبار القوم ليُطمئنهم ويؤكد على الوقوف معهم وأنّ الدولة لن تتخلى عن مواطنيها وستتحمل مسؤولياتها تجاههم انطلاقاً من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «كلكم راع وكل مسئول عن رعيته»، ومما قاله الملك عبدالعزيز في هذا الجمع «لا تخافوا سنشاطركم ما لدينا من مال وأرزاق».
ومن التدابير التي اتخذها الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، تشكيل لجنة تسمى «لجنة التنسيقات» مهمتها السعي لتخفيض ميزانيات الدوائر الحكومية ومراعاة العدل والضرورة. وقد اقترحت اللجنة تسريح ثلث موظفي الدولة لمواجهة العجز الاقتصادي التي تمر به البلاد وهو إجراء تعمد إليه كثيرٌ من الدول والمؤسسات والشركات عند حدوث عجز اقتصادي. ولكن الملك عبدالعزيز لحرصه على رعاية ومصالح مواطنيه ولإدراكه ما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية ولتحقيق العدالة بين جميع أفراد الشعب فقد رفض مقترح لجنة التنسيقات بفصل الموظفين وأمر بأن يُكتفى بخفض مرتبات الموظفين.
ويوضح ذلك الموقف منهج الملك عبدالعزيز في الشورى وتغليبه المصلحة العامة ومصلحة المواطنين حتى ولو اختلف ذلك مع رأي اللجنة الشورية. وفي هذا اقتداء بنهج الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام الذي وجهه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
وقد قام الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، بخطوات عملية للتعامل مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها المملكة في ذلك الوقت نتيجةً للحرب العالمية الثانية التي نتج عنها شُح المؤن وغلاء الأسعار مما أثّر على معيشة الأفراد بل وحياتهم، حيث أمر يرحمه الله، بتعميم الخبز والأفران في سائر أنحاء البلاد وكانت توزع الخبز بالمجان، وأمر بإجراء مبرات ملكية في سائر المدن والقرى، وأُلّفت لجان لذلك الغرض وقررت رغيفاً واحداً لكل فرد من أفراد الشعب إذا كان ممن لا عمل له أو كان عمله لا يفي بحاجته وحاجة أُسرته. ويُذكر أنّه بلغ ما يوزع على أفراد الشعب في المدن والقرى مليون رغيف. وفي هذا السياق نشرت جريدة الرابطة العربية المصرية في عام 1363هـ/ 1944م مقالة تُصور ذلك الوضع جاء فيها:
«أمر الملك عبدالعزيز، حفظه الله، بصرف رغيف يومياً لكل شخص محتاج سواء كان فقيراً أو متوسط الحال، وبلغ ما يوزع في مكة يومياً مائة ألف رغيف، وفي جدة اثني ألف رغيف وفي الطائف أربعة آلاف رغيف. كما أنّ جلالته يواسي الأسر الكبيرة التي أخنى عليها الدهر بمبالغ متفاوتة شهرية ويجري عليهم بعض الأرزاق الأخرى من ماله الخاص»، بالإضافة إلى ذلك أقام الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، المضايف التي كان يرتادها المواطنين، ولم يغفل الملك عبدالعزيز أهل البوادي من رعايته فقد خصص لكل فرد من رجال البادية ونسائها ثلاثة كيلوات من الأرز شهرياً ومبلغ عشرة ريالات، مضافاً إليها كسوة كاملة في الصيف وأخرى في الشتاء ترسل إليهم في أماكنهم بواسطة السيارات.
ويمكن أن نستجلي أيضاً تجاوب الحكومة وتقديرها للأوضاع الاقتصادية في ذلك الوقت من إحدى وثائق الملك عبدالعزيز والمؤرخة في 7-4-1359هـ، الموافق لعام 1940م والمرسلة إلى أحد أمراء المناطق الحدودية التي يأمر فيها الملك عبدالعزيز بخفض الرسوم الجمركية 50% نتيجة للوضع الاقتصادي الذي كانت تعيشه ليس فقط المملكة ولكن دول العالم أيضاً في تلك الفترة الزمنية، وهي بداية الحرب العالمية الثانية، وذلك لتخفيض تكلفة السلع والمؤن الواردة للبلاد، حيث تقول الوثيقة:
«بما أنّ الرسوم الذي تؤخذ في الحدود على كل كيس أربعة أريل فيكون الحمل عليه ثمانية أريل ولأنّ الحالة الراهنة قد نزلنا بالرسوم وجعلناها ريالين على كل كيس رز وحنطة دقيق أي بمعنى النصف فيما يؤخذ عليه في السابق».
وتجاوباً مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها المملكة في ذلك الوقت نتيجةً للحرب العالمية الثانية التي كان من مظاهرها ارتفاع أسعار المؤن والسلع وشحها مما تضرر معه أفراد المجتمع صرف الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- قروضاً طويلة الأجل للمزارعين والتجار، كما قام يرحمه الله بمدّ التجار بسلع ومواد تموينية التي قامت الحكومة باستيرادها لتتوافر للمواطنين عن طريق هؤلاء التجار في الأسواق، ولكن يبدو أنّ الطمع والجشع صفة عند بعض الناس وفي مختلف الأزمان، مصداقاً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال وطول العمر» (رواه أنس بن مالك، صحيح البخاري)، فقد استغل بعض التجار الوضع وقاموا بالمغالاة في أسعار السلع والمواد التموينية ولم يُقدروا موقف الحكومة معهم ومساندتها لهم، مما اضطرت معه الحكومة أن تنهج مسلكاً آخر متمثلاً في قيامها باستيراد تلك السلع والمواد وبيعها للمواطنين بأسعار معتدلة مما أدى ذلك إلى هبوط الأسعار.
ومن هذا الموقف يتبين رؤية الملك عبدالعزيز الحكيمة في التعامل مع الأزمة الاقتصادية والظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع في تلك الأثناء وحرصه على مصالح عامة الناس وبروز البعد الإنساني والاجتماعي عند اتخاذ القرار الاقتصادي، خاصة في ذلك الوقت الذي كان يعاني فيه الناس من شظف العيش وقلة الدخول. وتتمثل معالم هذه الرؤية في:
1- التدرج في التعامل مع الظروف والأوضاع.
2- تبني الملك عبدالعزيز لسياسة دعم السلع والمواد التموينية لتوفيرها في الأسواق ولتخفيض الأسعار، كما أنّ في ذلك إثراء للحركة الاقتصادية في البلاد. وهذا السياسة تلجأ إليها كثير من الدول في وقتنا الحاضر.
3- حرص الملك عبدالعزيز على عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار لأنّ الأصل في المعاملات في التشريع الإسلامي أن تكون حرة، وهذا هو رأي الجمهور الذي استدل عليه بما رواه أنس، قال: غلا السعر على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت لنا، فقال: (إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال). والملك عبدالعزيز بحكم نشأته الدينية حريص على أن تكون جميع أفعاله ومعاملاته متفقة مع التعاليم الإسلامية. كما أنّ عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار أحد المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الحر في وقتنا الحاضر.
4- حرص الملك عبدالعزيز على إفادة جميع فئات الشعب فقيرهم وغنيهم من خلال تبني سياسة الدعم الغذائي وتحقيق المصلحة العامة.
5- حزم الملك عبدالعزيز حينما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة خاصة إذا كان ذلك يتعلق بأقوات الناس ومعيشتهم وحرصه على تحقيق الأمن الغذائي للمواطنين، فعندما رأى أنّ هناك من التجار من يستغل الظروف الاقتصادية فلم يتوان -يرحمه الله- في قيام الدولة باستيراد السلع وتوفيرها للمواطنين بأسعار معتدلة.
6- فك الاحتكار من خلال قيام الدولة باستيراد المؤن وتوفيرها للمواطنين بأسعار معتدلة، بحيث لا يتحكم فئة من التجار بأسعار السلع والمؤن التي يحتاج إليها الناس.
7- حلم الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- فلم يُعاقب التجار المستغلين للظروف على الرغم من دعم الدولة لهم ولم يتعرض لما في مخازنهم من مواد وسلع، وهذا نابع من إدراكه للطبيعة البشرية في حب المال التي بينها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث قال: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا»، بالإضافة إلى أنه في ذلك الوقت كانت بداية حركة الاستيراد والتصدير في البلاد، لذا لم يشأ الملك عبدالعزيز أن يتخذ إجراء قد يضر بهذه الحركة الناشئة.
كل هذه التدابير والإجراءات التي اتخذها الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، كانت في وقت تعاني فيه الدولة من محدودية الموارد الاقتصادية، كما أنّ الحرب العالمية الثانية أضافت عبئاً آخر على موارد الدولة المحدودة أصلاً، مما اضطرت معه الدولة للاستدانة من بعض الدول مثل بريطانيا وأمريكا، وعلى الرغم من كل الظروف إلا أنّ الملك عبدالعزيز تجاوز هذه الأزمة الاقتصادية، كما تجاوز غيرها من أزمات، معتمداً على إيمانه بربه، متسلحاً بسمو هدفه ونبل مقصده وقوة عزيمته وحنكته، والملك عبدالعزيز لم يكن محنكاً سياسياً وقائداً عسكرياً وشخصية اجتماعية فحسب بل ومفكراً اقتصادياً.
رحم الله مؤسس هذا الكيان الكبير الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وأدخله فسيح جناته، وأعلى مقامه في آخرته كما أعلى مقامه في دنياه، ويرحم الله من توفاه الله من ذريته وبارك فيمن بقي منهم من بعده.
وقد توارث أبناء المؤسس -يرحمه الله- نهجه من بعده في الاهتمام بالمواطن والعمل على تيسير سبل معيشته والتخفيف عن كاهله، وقد اتخذ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أيده الله، الكثير من الإجراءات والتدابير لمواجهة ظاهرة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة التي برزت مؤخرا في المملكة، التي تعدّ ظاهرة عالمية وإن كان المجال لا يتسع لذكرها في هذه المقالة المختصرة.
د. راشد بن سعد الباز - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية